كتب سركيس نعوم في” النهار”:
لا يزال عددٌ من اللبنانيّين يتساءلون عن الذي حصل في إحدى الجلسات الأخيرة التي عقدها مجلس الوزراء ودرس فيها مشروع قانون الموازنة ثمّ أقرّه. التساؤل مشروع لأنّ ما نشرته وسائل الإعلام بعد ذلك، على تناقضها، ومواقع التواصل الاجتماعي، أظهر أنّ عدداً من الوزراء ومنهم ممثّلو “الثنائيّة الشيعيّة” احتجّوا على الطريقة التي استعملها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لإقرار الموازنة من دون تصويت رسميٍّ عليها. وذلك عندما أمسك بملفّها حاسماً المناقشة بقوله لقد أُقرّت، ثمّ انتقل البحث إلى موضوعات أخرى موضوعة على جدول أعمال الجلسة. فهل أُقرَّ فعلاً مشروع الموازنة بـ”هوبقة” مارسها ميقاتي وتغاضى عنها رئيس الجمهوريّة ميشال عون الذي كان حاضراً الجلسة في قصر بعبدا فترأّسها؟ تُفيد المعلومات التي توافرت في ذلك اليوم وبعده عن ما حصل بل عن أسبابه، أنّ رئيس الحكومة انزعج كثيراً من طريقة الوزراء المعترضين في إبراز اعتراضهم وفي تذرّعهم بعدم مشروعيّة إقرارها في جلستهم من جرّاء عدم التصويت عليها. ذلك أنّه ترأّس في السرايا الحكوميّة ثماني جلسات لمجلس الوزراء دُرس خلالها مشروع الموازنة بنداً بنداً وبكثير من الدقّة والتفصيل، ووافق في نهايتها أعضاؤه عليها وعلى اختتام المناقشات حولها في جلسة تُعقد بعد أيّام قليلة في قصر بعبدا يترأّسها رئيس الجمهوريّة، وهذا ما حصل.
بعد “الشوشرة” التي حصلت داخل الجلسة سأل الوزراء المعترضون ميقاتي عن سبب استعماله أسلوب رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي في إقرار مشروعات القوانين المتنوّعة ولا سيّما الخلافيّة منها، وهو أسلوب قائم على السرعة والحسم وعلى استعمال كلمة “صُدّق صُدّق” مرّات عدّة. فكان جوابه (أي ميقاتي): وافقتم كلّكم على مشروع قانون الموازنة في الجلسات الثماني التي عقدناها في السرايا. لكنّكم بدأتم في جلسة مجلس الوزراء في بعبدا بالاعتراض على أمور عدّة ليس لأنّكم راغبون في إعادة البحث فيها وتأخير صدورها لأسباب أجهلها، بل لأنّكم أردتم استخدام هذه الطريقة لإرضاء جماهيركم ولتكوين انطباع عند الرأي العام اللبناني كما عند رأيكم العام أنّكم ساهرون على مصلحته ولا سيّما قبل أسابيع من الانتخابات النيابيّة. طبعاً لم يُعلّق الوزراء المعترضون لكنّهم اعترفوا لميقاتي بمؤهّلات عنده وأهمّها قدرته على تدوير الزوايا وعلى اتّخاذ مواقف ضروريّة في سرعة تلافياً للتأخير من جهة ولاستثارة الحساسيّات بين الأطراف الذين تتألّف منهم الحكومة من جهة أخرى.
ماذا عن نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي ومباحثاته الوجاهيّة مع صندوق النقد الدولي عندما يكون ممثّلوه في بيروت أو عبر تقنيّة “زوم”؟ يبدو رئيس الحكومة ميقاتي مُعجباً بكفاءاته ومواهبه التفاوضيّة وقدرته على دفع المناقشات والمباحثات في اتّجاه الحلول الجيّدة. هذا ما أكّده المُتابعون من قرب لحركة ميقاتي وحكومته كما لحركة مجلس النوّاب ورئيسه وأعضائه ولرئيس الجمهوريّة ومُستشاريه والقريبين منهم وما أكثرهم. فقد خرج ممثّلو صندوق النقد الدولي من الاجتماعات المُشار إليها حتّى الآن على الأقلّ بانطباعات تُشير إلى جديّة الشامي وكفاءته واندفاعه وحصر اهتمامه فقط بالتوصّل إلى حلول للمشكلات الصعبة وبإقناعهم بأنّ مرحلة الانخراط العمليّ في البحث عن الحلول بل في اعتماد المناسبة منها لبدء مسيرة تنفيذها، إذ حان وقتها ولم يعُد في مصلحة اللبنانيّين استمرار الاختلاف في ما بينهم ليس على جوهر الحلول بل على المصالح المتناقضة التي يحرص زعماؤهم وقادتهم على المحافظة عليها غير عابئين بالمصلحة العامّة.
المشكلة مع صندوق النقد الدولي، يُضيف المتابعون أنفسهم، أنّ الخسائر الماليّة التي لا بُدّ من معالجتها تبلغ حوالي 102 مليار دولار أميركي. واعتراف الدولة أو المعنيّين بهذا الموضوع فيها بحوالي 64 مليار منها فقط يعني بوضوح تام أنّ الدولة أو الحكومة تُريد أن “تُخسِّر” المودعين نحو 70 في المئة من ودائعهم الماليّة في المصارف اللبنانيّة. وهذا أمرٌ لا يمشي ولا يجوز لأنّه غير عادل. طبعاً لم يستوعب المودعون ذلك في البداية رغم انتظامهم في أكثر من حركة احتجاجيّة وتحاورهم مع المصارف وحتّى مع بعض المسؤولين، كما رغم نزولهم إلى الشارع احتجاجاً على “سرقة” ودائعهم أو خسارتها. والحلّ لهذه المشكلة الذي تفيد المعلومات نفسها أنّ اتفاقاً نهائيّاً أو شبه نهائي عليه قد تمّ وهو مبنيٌّ على تقسيم المودعين فريقين.
الأوّل ويبلغ عدده 92 في المئة منهم يمتلك حسابات “صغيرة” حدُّها الأعلى 200 ألف دولار أميركي.
والثاني الذي تزيد ودائعه عن الرقم المذكور، وهو يُشكِّل نحو 8 في المئة من عدد المودعين.
الحلّ يجب أن يكون أو سيكون عدم تحميل الـ92 في المئة من المودعين أيّ خسائر، وتحميل الـ8 في المئة منهم أي أصحاب الودائع الكبيرة نحو 70 في المئة من الخسائر. يبدو أنّ هذا “الحلّ” سيسلك طريق التطبيق بعد إرضاء أكثريّة المودعين أي الـ92 في المئة منهم.
هل يعني ذلك أنّ مسيرة انطلاق لبنان نحو عودة العافية إلى قطاعاته المُنهارة كلّها قد بدأت؟ كلّا، يُجيب المتابعون أنفسهم. لكنّ المعلومات التي في حوزتهم تشير إلى أنّ مسؤولين أميركيّين أبلغوا الرئيس نجيب ميقاتي في محادثات أخيرة معه: “لبنان مُكسَّر وينزف وهو الآن في غرفة العناية الفائقة. احتمال أن يقضي نحبه أي أن يموت موجود. لكن يُمكن أن يعود إلى الحياة على صعوبة ذلك. نحن سنُساعدك الآن لإبقائه حيّاً وهذا هو الممكن الوحيد حاليّاً”. علّق ميقاتي على ذلك بالقول: “لبنان في مرحلة نزول نحو النهاية مثل حرف “ا” في اللغة العربيّة. أنا سأبذل كلّ ما في وسعي لأجعل حاله الراهنة تُشبه حرف الـ”L” باللغة الفرنسيّة.
وشكل هذا الحرف يعني أنّ النزول توقّف في انتظار الحلول التي تُعيد لبنان إلى الصعود أي إلى الحياة ولكن بتدرّج وتؤدة وهدوء”. علّق المسؤولون الأميركيّون على ذلك بالقول: “نحن سنفعل في هذه الأثناء كلّ ما يمكننا لمساعدتكم على وقف نزوله ريثما تنجح مساعينا لحلّ قضايا أخرى، إذ من شأن ذلك فتح طريق العافية والسلامة أمام بلادكم. نحن سنُساعدكم”. طبعاً تُفيد معلومات المُتابعين أنفسهم أنّ الاهتمام الأميركي الفعليّ والجدّي بالمنطقة لم يعُد كما كان في السابق. لكنّ اهتمامهم بلبنان لا يزال موجوداً، إلّا أن نتيجته ترتبط بحلول وتسويات لقضايا إقليميّة أخرى لا يزال البحث فيها جارياً.