نأت المصارف بنفسها لعقود عن السجالات السياسية وحافظت على مسافة آمنة من الجميع. فبعض أصحابها سياسيون وبعضهم على علاقة وطيدة بهم. على أن حجم الكارثة التي تدحرجت نحوها البلاد أجبَرَ المصارف على حمل جزئها الخاص من المسؤولية. ولأنها المعني المباشر بأموال المودعين، ظلّت المصارف في الواجهة إلى أن طَفَحَ كيلها حتّى من داعميها، وأصبح الإقفال فكرة تلاقي استحساناً في الأوساط المصرفية، ما لم تجد السلطة السياسية وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، حلاًّ مناسباً.
توجَّهَ أصحاب الودائع نحو المصارف في بداية التحرّكات الشعبية في تشرين الأول 2019. فالمصارف حينها، كانت قد بدأت بشلِّ قدرة المودعين على سحب أموالهم، وخاصة الدولارية منها. وتعرَّضَت الكثير من الفروع لتحطيم واجهاتها ومكاتبها بعد امتناع مدرائها عن تنفيذ طلبات المودعين، فما كان من أصحاب الحقوق إلاّ الردّ. فأقفلت المصارف أبوابها اعتراضاً وتحذيراً من تكرار هذه الحوادث.
وجدت المصارف نفسها بلا حماية من سياسيين ساعدتهم على تحويل أموالهم قبل الأزمة وخلالها. كما أن حاكم المركزي لم يكن على قدر الآمال، إذ رمى على المصارف الثقل الأكبر من المسؤولية فيما كان يُنتَظَر منه حمايتها. لكن الحاكم مشغول بحماية نفسه الآن.
انزلقت المصارف إلى مزيد من الأزمات، وصولاً إلى حدّ مواجهة الدعاوى القضائية في لبنان والخارج. بعضها أتى ثماره وأعادت البنوك المتّهمة أموالاً لمودعيها، فاتحة بذلك الطريق أمام مزيد من الدعاوى. على أن آخر الحصاد كان قاسياً، إذ أصدرت النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون، يوم الخميس 10 آذار، قرارات منع السفر طالت رؤساء مجالس إدارة خمسة مصارف لبنانية، وهُم رئيس جمعية المصارف سليم صفير عن بنك بيروت، سمير حنا عن بنك عودة، انطوان الصحناوي عن بنك سوسيتيه جنرال، سعد الأزهري عن بلوم بنك وريا الحسن عن بنك ميد. وكان من المفترض أن تطال اللائحة رؤساء مجالس 14 مصرفاً ادّعت عليهم مجموعة الشعب يريد إصلاح النظام، وتطالبهم باستعادة 8 مليار دولار هي حصيلة هندسات مالية وقروض غير مدفوعة. ورأت المصارف أن وصول المسألة إلى هذا الحد، لم يعد أمراً مقبولاً.
هو موقف لا تُحسَد عليه المصارف. لكنه ضريبة لا بد منها كثمنٍ للرخاء الذي عاشته واستفادت تحت جناحه من مليارات الدولارات هي حقٌّ للمودعين والدولة، أُخِذَت تحت مسميات كثيرة آخرها وأكثرها فضائحية، هي الهندسات المالية التي تشكّل زبدة إبداع رياض سلامة في تحويل أموال الناس والدولة إلى أرباح خاصة لأصحاب المصارف.
وأستباقاً لما قد تجرّه الدعاوى القضائية وقرار منع السفر “تبحث المصارف خلف الكواليس في إمكانية إعلان إقفال أبوابها. فهي غير مسرورة للحملات التي تُشنّ عليها، وغير مضطرّة لتحمّل تبعات تعاميم حاكم مصرف لبنان”، وفق ما تؤكّده لـ”المدن” مصادر من داخل القطاع المصرفي.
واستطراداً، تخشى المصارف من مفاعيل قانونية رجعية لعملية احتجازها أموال المودعين أو اعطائهم أموالهم الدولارية بالليرة وفق أسعار صرف تقضم جزءاً من قيمة الودائع، بلا قانون للكابيتال كونترول أو الهيركات. فتعاميم المركزي نفسها لا تستند إلى قوانين واضحة، بل إلى اجتهادات وتفسيرات غير صحيحة لبعض القوانين والمواد القانونية.
“قرار الإقفال لم يُتَّخَذ بعد، لكنه ليس ببعيد. وستنتظر المصارف نتيجة الجولات التي يقوم بها بعض كبار المصرفيين وعلى رأسهم رئيس جمعية المصارف سليم صفير، على عدد من المسؤولين السياسيين لوضع حدٍّ لما يرونه استهدافاً للقطاع المصرفي”.
يستغرب أحد المصرفيين قرار القاضية عون. فالممنوعون من السفر “ليسوا متوارين عن الأنظار ولا ينوون مغادرة البلاد هرباً. وهم إن غادروها بهدف العمل، فيعودون إليها. وبالتالي لا سبب وجيهاً لمنع السفر”. ويضيف المصرفي في حديث لـ”المدن”، أنه كان على القاضية عون التوجّه نحو “مَن سبَّبَ الأزمة وفرَّطَ بمليارات الدولارات بذريعة الدعم فيما جرى تهريب البضائع المدعومة. والتوجّه نحو مَن تمنَّعَ عن تسديد قيمة سندات اليوروبوند. فالمصارف هي وسيط للتحويلات المالية وليست سبباً للأزمة”.
ولم يحسم المصرفي مسألة الإقفال. بل على العكس، اعتبَرَ أن “لا سبب يدعو للإقفال. فالمصرفيون الممنوعون من السفر غير مدّعى عليهم بأي قضية”. ومع ذلك، بدا واضحاً انزعاجه من مواقف رياض سلامة تجاه المصارف، ومن بعض السياسيين الذين يصفّون حساباتهم مع سلامة، فتنعكس الأمور على القطاع المصرفي الذي يفقد شيئاً فشيئاً ثقة الخارج وتحديداً المصارف المراسلة “التي لا تلتفت لتفاصيل ما يجري داخل لبنان، بل ترى أن قرارات قضائية ومشاكل وأزمات تصيب المصارف، فتقطع علاقتها بها أو تضع قيوداً عليها، ما ينعكس سلباً على القطاع وعملائه”. على أن التقليل من أهمية قرار منع السفر، لا ينفي وجود أسباب أخرى موجبة أكثر للإقفال.
هي “طبخة بحص” على موقدٍ يزداد اشتعالاً. رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه السياسي يستهدفون رياض سلامة طمعاً بكرسيّ الحاكمية. وسلامة يصدر المزيد من التعاميم الفوضوية، والمودعون يريدون أموالهم أو ما تبقّى منها. والمصارف احتجزت الأموال ولا يريد أصحابها إعادتها، بل يريدون غطاءً قانونياً يشرّع ما تبخَّر منها ويعيد ما تبقّى بشروط مجحفة. والقاضية غادة عون تشدّ الخناق على المصارف والحاكم معاً، لكن المسار القضائي لا يصل إلى نتيجة إيجابية حين يكون “الكبار” هُم الخصم، فالتسويات أقوى وأسرع.. ولذلك، قد تلجأ المصارف لإقفال أبوابها ليومين أو ثلاثة للضغط على المعنيين وتهدئة إيقاع اللعبة. ووحدهم المودعون وبعض التجّار سيدفعون الثمن. الطرف الأوّل باستمرار احتجاز أمواله، والثاني بالتضييق على عمليات تحويل الأموال وتنفيذ طلبات الاستيراد والتصدير، وهو ما تظهر نتائجه سريعاً في السوق من خلال ارتفاع أسعار السلع بحجّة عدم إنجاز المعاملات وتأمين الدولار للاستيراد.