توظَّفتُ فورَ تخرُّجي من الجامِعَة في غير إختصاصي في الفلسفَة. تركتُ مرغَمًا جان بول سارتر الملحِد وهايدِغِر الوجودي وشوبنهاور المتشائِم إستراتيجيًّا لأتحوَّل إلى مخترِع شِعارات إعلانيّة ضمن فريق إحدَى الشركات العملاقَة التي كانَ لَها فرع في سنتر سوفيل الأشرفيَّة وكان ذلك في بدايَة الثّمانينات من القرن الماضي الذي نطَحَنا طولًا وعرضًا. أوَّل تحَدٍّ لي كانَ الحرص المهني على إبلاغ المستَهلِك المَكذوب عليه ديبلوماسيًّا بأنَّ إحدَى مصانِع الكازوزا في لبنان تقدِّم خدمَة مميَّزَة لِمُحتَسيها تتمثّلُ باحتفاظِهِم بسدّات القَناني وقراءَة أغلِفَتِها الدّاخليَّة المبطَّنَة. كلُّ ما كان على المستَهلِك أن يفعلَه أن يقرأ ما على هذه الأغلِفَة من هدايا. غلافٌ يقدّم درّاجَة هوائيَّة وآخَر صندوقَة كازوزا وما إلى هنالِك. ” طِبّ السَدِّة على تِمّها…” ثمَّ تكملَة للجملَة لَم أعُد أذكرُها. كنتُ أظنُّ بإنّي أشاركُ في صناعَة رأي عام. شركة الإعلانات كانت تَجني الملايين أما أنا فكنتُ أتقاضَى راتبي بالملاليم.
كازوزا إنتخابيَّة اليوم بدأت تتصدّر اليونيبول في كلّ لبنان. من دون أن تطبّ السَدَّة على تمّها باستطاعَتِكَ اليوم كمستَهلِك أن تتخيَّل المزايا التفاضليَّة التي تقدّمها العروضات الإنتخابيَّة. طبّ السدَّة على تمَّك وانتَخِب هذا أو ذاك من الأحزاب والشخصيّات الفذَّة في لبنان. اللي بدّو وما فيه. اللي فيه وما بدّو. اللي ما بدّو وفيه. اللي ما بدّو وما فيه. أحاجي عليك أن تحلَّها بما تتحلّى بِه من فطنَة وذكاء فطري. بيروت بدّها قلب. وقلب بدّو بيروت. هذا لا يساوِم من دون ” أو ” باعتبار أنَّ الخصم يساوِم مع ” أو “. باختصار إنتَخِب والسدَّة على تمَّك في مطلَق الأحوال.
يتزامن ذلك مع مهرجانات منظَّمَة للأحزاب مع ديزاين في خلفيَّة المشهَد زائد مرشَّحين يدرّبُهُم مستشارون في صناعَة الصورة ومخارِج الحروف والإداء العَلَني. وسائل الإعلام تعتبر المناسبَة تجاريَّة بامتياز. مع كل حلقَتين توك شو حلقَة ببلاش. التسعير بالفْرَش دولار والشّرط أن الأموال المدفوعَة لا تُستَبدَلُ ولا تُرَدُّ في حال طارَت الإنتخابات. بين السفارات والمستِر بَهاء والثروات الخاصَّة يمكن القول أَنّ النّاخِب يُحَرقَص على مقالي تيفال الأصليَّة ليصبِح مأكول الهَنا للمرشحين وأولياء أمرِهِم. ميزانيّات ضخمَة خُصِّصَت لشراء الأصوات وإذا تعذَّر ذلك فتسديد قسط مدرسَة أو حصَّة غذائيَّة مع كازوزا لتسهيل هضم المذَلَّة.
تنمو أيضًا على تخوم هذه المسخَرَة شركَات الإحصاءات والبوانتاجات التي تبيع المرشَّحين أحجاماً ستالينيَّة لشعبيَّتِهِم. تصل مداخيل إحداها إلى خمسَة عشر ألف دولار طازَجًا شهريّاً حتى حلول الإنتخابات وذلك بمواكَبَة وتواطئ بعض المواقع الإخباريَّة أون لاين التي تنال حصَّتها من الغلَّة. لا أحد يقدّم برنامجًا متكاملاً قابلاً للتنفيذ. مَن يخرج عن مألوف الذلّ باعتبار أنه قدّم برنامجًا مماثِلًا متأثّرٌ بجمهوريَّة أفلاطون. ماكيافيليّون مُتجلبِبون برداء أفلاطوني. ” خذوا هذا هو برنامجي الّذي به سُرِرت. إقرأوهُ. أُغلوه. إشرَبوا زومَه تَبُلّون كما يَبُلُّ الذي يعاني من بحصِ الكِلَى بِشُربِ زومِ عيدانِ الكَرَز “.
على عودِ الصّليب سيتمُّ صلبُنا في أيّار. ” بَدّنا وما خَلّونا ” سَيكون شعار ولاية المجلس الجديدة. القلّة الخارقة التي ستخرق المألوف ستكون من فئة المتفرِّجين. إما تدخل المنظومَة وإمّا تبقى للفرجَة فقط. يحدث كلّ ذلك في مناخ بدأ يروِّج للنفوذ السوري في لبنان معطوفًا على انتصار الدبّ الروسي على النّسر الأميركي وتحوّل أوروبا إلى قوّة موازيَة لقوّة الملكة إليزابيت في بريطانيا العظمى سابِقًا. ستكون ملهاتُنا المقبلَة الخلاف على مستَديَرة في الطيّونة وعلى صورة زعيم أجنبي على طريق المطار وعلى نُصُب تَذكاري في عكّار العتيقَة. دولَتُنا حوض شَشْما الدّوَل. يتبوّلون فيها بِإغماض العينين انتِشاءً. وظيفةُ دولَتِنا شَدُّ ” السّيفون ” وتنظيفُ الحَوض قبل التبوُّل المقبِل. حتّى الكازوزا التي هي أرخَصُ ما يساعِدُنا على التّدشيَة أصبَح سِعرُها يسبّب عسر الهَضم. خَرْجنا والله العَظيم.
ليبانون ديبايت” – روني ألفا