في الأسابيع الأخيرة، كان هناك تصعيدٌ حادٌّ في التوتر في العلاقات بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) من جهة أخرى، ناجم عن رفضهما القاطع للرد على مقترحات موسكو بتزويدها بضمانات أمنية رسمية وبالتالي ملزمة.
المطالب الرئيسية لموسكو هي ضمانات موثقة لمنع المزيد من التوسع نحو الشرق لحلف «الناتو»، والامتناع عن نشر أسلحة هجومية بالقرب من الحدود الروسية، وإعادة القدرات العسكرية والبنية التحتية للحلف في أوروبا إلى الوضع الذي كان عليه في 1997 عندما تمَّ التوقيع على القانون التأسيسي للعلاقات المشتركة والتعاون والأمن بين روسيا وحلف الناتو. إن قبول أوكرانيا في الناتو يعني تقريب البنية التحتية العسكرية للناتو من حدودها، الأمر الذي سيختصر وقت وصول الصواريخ الأميركية إلى موسكو إلى بضع دقائق! مع الأخذ في الاعتبار حقيقة أن كييف تحدد في وثائقها العقائدية مهمة بسط السيطرة الأوكرانية على شبه جزيرة القرم، التي تعد جزءاً لا يتجزأ من الاتحاد الروسي، وأن أتباع النازيين خلال الحرب العالمية الثانية يكتسبون المزيد من النفوذ في أوكرانيا، من الواضح أن انضمام الأخيرة إلى الحلف سيشكل تهديداً وجودياً لروسيا، ويدفعها للمواجهة مع الناتو.
لقد تم تجاهل مطالب موسكو في ردود الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على المسودات التي قدمتها، بل وتم التأكيد على مبدأ حرية قبول أعضاء جدد في الناتو.
ذكر فلاديمير بوتين زملاءه الغربيين بأن مبدأ الأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة يشمل الالتزام الوارد في العديد من الوثائق الدولية بعدم تعزيز أمن دولة على حساب أمن الدول الأخرى. كما شدد الرئيس الروسي على أنه وفقاً للمادة 10 من معاهدة 1949 يمكن لحلف شمال الأطلسي دعوة دول أخرى إلى عضويته، لكنه ليس ملزماً على الإطلاق بقبولها، بيد أن كل تحذيرات الرئيس الروسي كانت عديمة الجدوى، رغم أنه حذر بإصرار من خطر تجاوز الغرب «للخطوط الحمراء». وبالتزامن مع الضغط القوي على موسكو، كثف الغرب من الضغط الاقتصادي أيضاً عليها، عبر اتخاذه قرارات بفرض عقوبات جديدة.
ترافق التوتر بين روسيا والغرب، والذي وصل إلى مستوى حرج، مع تفاقم حاد للوضع في أوكرانيا نفسها. صعدت كييف من ضغوطها القوية على السكان الناطقين بالروسية الذين يتعرضون للتمييز في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، والذين يدافعون عن حقوقهم، واستمر القوميون الراديكاليون في التهديد بالانتقام من كل من يختلف مع أفكارهم المتطرفة، وباتت تتعرض بلدات هذه الجمهوريات للقصف على نحو متزايد، أدى إلى تدمير البنى التحتية وسقوط ضحايا من المدنيين. رفضت كييف بعناد الامتثال لاتفاقيات مينسك، ورفضت كذلك بشكل قاطع الدخول في مفاوضات مع دونيتسك ولوغانسك. لم تكن هناك حاجة حتى للحديث عن اعتراف كييف بالعودة الطوعية لشبه جزيرة القرم إلى قوام روسيا. تعززت قناعة راسخة في روسيا، بأن كل ما يحدث «كان نتيجة سياسة الغرب التي استمرت ثماني سنوات لإنشاء نظام عدواني يكن الكراهية للروس على أراضي أوكرانيا مع إضفاء الشرعية على تشكيلات النازيين الجدد». وصلت الأمور إلى درجة أن الرئيس الأوكراني بدأ في تسمية السكان الناطقين بالروسية في جنوب شرقي البلاد بـ«القطعان» بدلاً من البشر. إن عدم حماية هؤلاء الأشخاص بالنسبة لبوتين يعني فقدان الشرعية في أعين الشعب الروسي، الذي بات النموذج الوطني في مزاجه يزداد قوة.
أصبح واضحاً لبوتين أنه: لم يبقَ إلا القليل، وسيتم تجاوز نقطة اللاعودة، ستنضم أوكرانيا بسرعة إلى الناتو، وسيتم نشر البنية التحتية العسكرية للتحالف فيها، بهدف تدمير روسيا.
كانت حسابات القيادة الروسية حتى وقت قريب جداً تبنى على أساس الأساليب السياسية والدبلوماسية، لكن الضغط القوي من الغرب تطلب التفكير في الإجراءات العسكرية، خصوصاً أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بدأوا فعلياً في تزويد أوكرانيا المغرورة بالأسلحة الحديثة. أجرت روسيا بنجاح (وبشكل شرعي تماماً) تدريبات لقواتها المسلحة بالقرب من حدودها الغربية، بيد أن هذه الرسالة الموجهة إلى جيرانها لم تُستوعب. كانت النخبة الأوكرانية الحاكمة، التي تُدار من الخارج، تفقد بشكل يائس فرصتها الذهبية لتصبح دولة عازلة مؤثرة ومحايدة بين روسيا والغرب، وحكمت على نفسها بتفاقم أكثر حدة للأزمة في العلاقات مع جارتها الشرقية الكبرى، والتي يربطها معها تاريخ مشترك وتقارب عرقي وحضاري.
في ظل هذه الظروف، فتحت روسيا الأبواب أمام اللاجئين من دونيتسك ولوغانسك، بمن فيهم كبار السن والنساء والأطفال، واتخذت جميع الإجراءات اللازمة لإيوائهم في الأقاليم الروسية، حيث وصل مئات الآلاف من الأشخاص المحتاجين لذلك. وفي 21 فبراير (شباط)، من أجل حماية سكان جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، بناءً على طلب قيادتهم، وبدعم من البرلمان الروسي، وقع الرئيس فلاديمير بوتين مرسوماً يعترف باستقلال هاتين الجمهوريتين. في الوقت نفسه، شدد على أنه في الماضي، «قامت روسيا بكل ما هو ممكن للحفاظ على وحدة أراضي أوكرانيا…. لكن من دون فائدة». الآن تمت المصادقة على معاهدتين – بشأن الصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة. تسببت هذه الإجراءات، كما هو متوقع، في تصاعد الخطاب المعادي لروسيا من الغرب ومن النخب الحاكمة في أوكرانيا نفسها.
هنا أدرجت إجراءات أكثر جدية على جدول الأعمال لتحييد التهديد بضربة مفاجئة ضده. نتيجة لذلك، في 24 فبراير، اضطر الرئيس الروسي لإطلاق عملية عسكرية خاصة لقواته المسلحة، بدعم من قوات جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الشعبيتين على الأراضي الأوكرانية، والتي هدفها إنجاز مهمة إجبار كييف على السلام.
تتمثل المصلحة الاستراتيجية الرئيسية لروسيا في أن تكون لها دولة صديقة على حدودها الغربية، وليس نظاماً فاسداً يهدد وجودها باستمرار ويرتكب جرائم دموية ضد مواطنيه والمواطنين الروس الذين يعيشون على أراضي هذه الدولة. الطريقة الوحيدة للحماية من ذلك هي نزع سلاح أوكرانيا واجتثاث النازية منها. في الوقت نفسه، صدرت أوامر للقوات المتقدمة بالسعي لتفادي الدمار والخسائر بين السكان المدنيين. يُسمح لجنود الجيش الأوكراني الذين ألقوا أسلحتهم، إذا تعهدوا عدم المشاركة في الأعمال القتالية ضد الجيش الروسي، بالعودة إلى ديارهم. أحد الأهداف الرئيسية للعملية الخاصة هو تدمير البنية التحتية العسكرية لأوكرانيا، عن طريق توجيه ضربات ساحقة، من دون أن تمس المدن والمناطق السكنية. تقتصر عمليات القوات الجوية الروسية بشكل عام على توجيه الضربات الدقيقة، بهدف الحفاظ على البنية التحتية المدنية، لكن هزيمة النظام الأوكراني أمر لا مفر منه. رغم أن موسكو الرسمية كما هو متوقع لا تكشف جميع أوراقها، لكنه يمكننا توقع إحكام سيطرة الجيش الروسي على كامل البلاد أو على معظمها، والسقوط القريب لسلطة كييف، وكخيار، تشكيل حكومة إنقاذ وطني جديدة، تعكس مصالح جميع فئات سكان البلاد وستتولى زمام الأمور، في تطهير أوكرانيا من هيمنة القوميين الراديكاليين، ونزع السلاح والانتقال إلى الحياد.