ليست العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا هي السبب الوحيد لارتفاع أسعار السلع الأساسية، إذ كان التضخّم يسيطر على الدول بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وكان له أثر واسع في رفع الأسعار حول العالم. لو أخذنا سلّة من أسعار القمح والغاز والنفط والذرة سيتبين أن الارتفاع فيها منذ مطلع السنة الجارية ولغاية نهاية شباط، بلغ 15.7%، ويتوقع أن تواصل الأسعار ارتفاعها لأسباب عدّة:
أن المصارف المركزيّة حول العالم تتوقّع أن يبقى التضخّم مسيطراً على المشهد العام اقتصادياً واجتماعياً، بالإضافة إلى أن التوتّر الحاصل بين روسيا وأوكرانيا ستكون له تداعياته الممتدّة على المديين القصير والمتوسّط.
في الأصل، أدّت السياسات التي اتبعتها الدّول المتقدّمة اقتصادياً خلال أزمة كورونا، إلى ارتفاع المعروض النقدي في العالم بشكل كبير، وهذا ما أدّى إلى انتفاخ الطلب على السّلع في السوق، في مقابل سيطرة الاضطرابات على مستوى العرض ما حدّ من إمكانية التوازن بينه وبين حجم الطلب. فالارتفاع في الطلب مقابل الانخفاض في العرض خلق موجة من الارتفاع في أسعار السّلع. وتبعتها موجة من التضخّم بدأت منذ منتصف العام الماضي 2021، لكنّ هذه الموجة تسارعت في الأشهر الأخيرة بشكل كبير، خصوصاً مع بداية السنة الحاليّة.
– العامل الأهم، كان ارتفاع أسعار النفط بشكل كبير. لأن النفط هو مدخل أساسي في كل عمليات ومجالات الإنتاج، سواء كانت زراعيّة أو صناعيّة أو تكنولوجيّة، ما يعني أن ارتفاع أسعار النفط يرفع أسعار كل السّلع. كما أن النفط جزء أساسي من سلاسل التوريد، لأن نقل المنتجات يعتمد عليه، ما يعني أن كلفة النقل تتأثّر أيضاً بارتفاع سعر النفط. كل هذه العوامل تجعل أسعار النفط حلقة محوريّة تنعكس على أسعار باقي السّلع.
– كذلك أدّت الأزمة الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا إلى تسارع الارتفاع في أسعار السّلع الأساسيّة. فمع أي توتّر عسكري ترتفع أسعار النفط بشكل تلقائي، بسبب زيادة الطلب عليه نتيجة الخوف الذي يعمّ الأسواق. وارتفعت أسعار القمح والذرة بسبب هذه الأزمة أيضاً، لأن البلدين المعنيين فيها هما من أكبر المنتجين لهذه الحبوب. فروسيا هي أكبر منتج للقمح في العالم، وأوكرانيا هي خامس أكبر منتج، وتبلغ حصّتاهما مجتمعتين نحو 30% من السوق العالمية. وعلى صعيد إنتاج الذرة تُعد أوكرانيا من أكبر مصدّري هذه السلعة في العالم.
لذلك، فإن التوتّر العسكري أنتج حركة كبيرة في السّوق حتى قبل بداية الحملة العسكريّة لأسباب عدّة:
أولاً، لأنه لا يمكن إيجاد بديل لسد العجز في حال خسارة إنتاج البلدين من الذرة والقمح، ولا يمكن للسوق العالمي أن يعوضه، ما يعني أن أي إشارة إلى اضطراب قد يحصل في عمليّة الإنتاج أو التصدير من البلدين سيتلقّفه السوق بإحداث فوضى، من شأنها أن تزيد الطلب، سواء لتغطية الحاجة أو بهدف التخزين.
ثانياً، إن الاضطراب بين البلدين يعني دخول سلاسل توريد هذه السّلع في تأخير تدوم انعكاساته لفترات طويلة. وهذا التأخير في سلاسل التوريد يعني تأخيراً في تلبية طلبات الحصول على القمح والذرة، وسيؤدي أيضا إلى تأخير كل الطلبات المستقبليّة. وقد حدث أمر مشابه خلال أزمة جائحة كورونا، عندما شهد العالم نقصاً في حاويات نقل البضائع، وهو ما أدّى إلى تأخير الشحنات على أنواعها على مدار سنة كاملة. ونتيجة للخوف من تعطّل سلاسل التوريد، ازداد الطلب على القمح والذّرة في السّوق، في مقابل محدودية العرض التي سبّبها انخفاض إنتاج ذلك الموسم، وأدى كل ذلك إلى ارتفاع الأسعار.
أخيراً، إن ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي سببه بشكل أساسي الأزمة بين روسيا وأوكرانيا. فمع ازدياد التوتّر بين البلدين، كان موقف الدّول الأوروبيّة صريحاً بوقوفها إلى جانب أوكرانيا. وأوروبا تستورد ثلث حاجتها من الغاز الطبيعي من روسيا. وأحد ممرات الغاز الروسي إلى أوروبا يمرّ عبر أوكرانيا. هذا الأمر دفع أسعار الغاز صعوداً. أولاً لأن الأسواق تتوقّع تحوّل الطلب الأوروبي إلى الغاز المسيّل، وثانياً لأن انقطاع الغاز الروسي عن أوروبا يعني انخفاض عرض الغاز في العالم بشكل كبير. مع العلم أننا ما زلنا في فصل الشتاء، ما يعني أن الطلب على الغاز في أوروبا لن ينخفض قريباً. لكل ذلك، يبدو أن توقّع السوق لهذا التفاوت بين العرض والطلب من شأنه أن يرفع أسعار الغاز بشكل تلقائي.
الاخبار