منذ انفجرت الأزمة المالية والاقتصادية في أواخر العام 2019، طفت الى السطح مقولة نبذ الاقتصاد الريعي والمطالبة بالاقتصاد المنتج. ما هو الاقتصاد المنتج؟ وهل هو الحل فعلاً للأزمة القائمة؟ وكم يحتاج من الوقت لتحقيق «النقلة»؟ والسؤال الأهم، هل كل من يطالب بهذا التغيير صاحب نية حسنة؟
في البداية، لا بدّ من التأكيد انّ معظم الاقتصاديين والسياسيين الذين يرفعون اليوم شعار الاقتصاد المنتج، ينقسمون الى ثلاث شرائح أساسية: شريحة تعرف المقصود بعبارة الاقتصاد المنتج، وهي مقتنعة بأنّ لبنان قادر على تحقيق العبور الى الضفة الأخرى. شريحة تجهل تفاصيل الملف، لكنها تعتبر انّ تجربة الاقتصاد السابق فشلت، وبالتالي، لا بدّ من التغيير. وشريحة ثالثة غير مهتمة بمعرفة جوهر الموضوع، بل تستثمر الأمر كشعار ترفعه لكسب التعاطف الشعبي، طالما أنّ المواطن في حال يأس وجاهز لتبنّي أي نظرية تُناقض الوضع السابق.
في الواقع، اختيار الوظيفة الاقتصادية لأي دولة ليست هواية لكي تختار السلطة ما تراه جذاباً أكثر. الوظيفة الاقتصادية تفرضها في الغالب الميزات التفاضلية القائمة في كل دولة، وهي ميزات مختلفة ولا يمكن توحيدها. وهذا الأمر ينطبق على كل اقتصاديات العالم المتنوع. وانطلاقاً من نقاط القوة التي تتمتع بها كل دولة: ثرواتها الطبيعية، موقعها الجغرافي، ثقافتها، تاريخها، حضارتها، كادراتها البشرية ونظامها السياسي، تتقرّر الوظيفة الاقتصادية للدولة.
هذه المعايير هي في أساس نجاح تجارب بناء اقتصاديات ناجحة حول العالم. وكل من خالف هذه المعايير فشل، أو حقق نجاحات محدودة كانت ستكون أكبر واشمل، فيما لو احترم هذه المعايير.
والعبور من وظيفة اقتصادية للدولة الى وظيفة أخرى ليس سهلاً، ولا يمكن ان يتمّ في فترة زمنية قصيرة، بل يستغرق احياناً عقوداً عدة. وهذا الأمر نلاحظه بوضوح لدى دول الخليج العربي المنتجة للنفط. حكومات هذه الدول التي بنت اقتصادياتها على معيار الثروة النفطية، أدركت مع الوقت الحاجة الى تنويع مصادر الدخل، وتخفيف الاعتماد على الذهب الاسود. ورغم مرور أكثر من عقدين على بدء مسيرة تنمية قطاعات اقتصادية الى جانب النفط، لا تزال في بداية مسيرتها، ولا تزال اقتصاديات هذه الدول مرتبطة بهذه الثروة، رغم الأداء الجيد الذي ولّدته صناديق الاستثمار السيادية، والتي عملت على الاستثمار في الداخل والخارج.
في لبنان، ينبغي أولاً التأكيد انّ الانهيار الذي حصل لا علاقة له بالوظيفة الاقتصادية التي اختارها اللبنانيون، بل بالأداء الكارثي الذي مورس طوال سنوات وربما عقود. وبالتالي، عندما يسود الفساد والسرقة والاهمال واللامسؤولية وفي غياب وجود دولة حقيقية، لا يمكن الحكم على التجربة الاقتصادية بأنّها فشلت بسبب طبيعتها. الفشل هنا معروفة أسبابه، ولا علاقة للوظيفة الاقتصادية به.
إلى جانب هذه الحقيقة، غالباً ما تتماهى الوظيفة الاقتصادية مع النظام السياسي الذي تختاره الشعوب. ولبنان لديه تاريخ قديم وحديث، وفي «التاريخين»، بنى اقتصاده على أساس الموقع وميزات الشعوب الموجودة فيه. وبالتالي، الانقلاب على الوظيفة الاقتصادية هو انقلاب على التاريخ والهوية، وهذا الأمر خطير، وقد يكون هناك من يشجّع عليه انطلاقاً من واقع انّ تغيير الهوية يبدأ بتغيير الوظيفة الاقتصادية. ولا يحق لنا كلبنانيين أن نصدّق مقولة انّ اقتصادنا انهار لأنّه كان اقتصاداً ريعياً، كما يسمّونه. ومن يدّعي انّ الفشل سببه نوعية الاقتصاد يجافي الحقيقة، ويتستّر من حيث يدري أو لا يدري، على «المجرمين» الذين أوصلوا البلد الى الإفلاس.
اليوم، وفي الوضع القائم، من المفيد إعادة النظر بطبيعة الاقتصاد في المرحلة المقبلة، مع استبعاد الانقلابات على الماضي، لأنّ ذلك لن يجدي. طبيعة وموقع وتاريخ لبنان وقدراته البشرية ونظامه السياسي كلها أمور ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار. وليس مطلوباً ولا متاحاً ان نُسقط من حساباتنا انّ الاقتصاد الوطني الذي ينبغي ان يكون متنوعاً في قطاعاته، وقادراً على تحقيق توازن، يستطيع ان ينقلب على نفسه ويتحول الى اقتصاد آخر لا يقيم وزناً أساسياً للمعطيات القائمة.
لبنان بلا سياحة، وبلا خدمات مالية مميزة، وبلا تجارة عابرة للحدود، وبلا اقتصاد معرفة، وبلا حريات مقوننة ونظام ضرائبي حديث يؤمّن نسبة اكبر من العدالة، لا يشبه لبنان الذي نريد الحفاظ على هويته. أما الإنتاج، فلا أحد يدّعي انّه يمكن إهماله، فهو في صميم كل الاقتصاديات الناجحة، بمن فيها الاقتصاديات المصنّفة خدماتية ناجحة، كما هي حال الاقتصاد السويسري على سبيل المثال. ولا تناقض بين دعم اقتصاد منتج، والحفاظ على هوية اقتصاد خدماتي مميز. وهذا هو المطلوب، عندما يحين موعد الخروج من الأزمة.