فعلها فلاديمير بوتين، وها قد باشر بعملية “تهذيب الغرب” من خلال أوكرانيا. الأزمة التي بدأت تحت عنوان رفض انضمام كييف إلى حلف الناتو، لها جذورٌ ذات صلة بالطاقة وإمدادات الغاز الروسي إلى القارة العجوز، سادت وتسود البلقان منذ نهاية الربع الاخير من العام 2021 والنصف الأول من العام الحالي، حيث كان الإنفجار الأول.
من الطبيعي أن تؤدي مواجهة من هذا الوزن إلى استنفار الأجهزة الغربية كافة وصولاً إلى اعتماد وتوظيف أفضل ما عندها في هذا المجال، وبصرف النظر عمّا كان يجري من خلف الكواليس وتحت رقعة “الشطرنج”، حفلت نهاية عام 2021 وبداية عام 2022 بالأحداث إذ تصدّرت حملة إعلامية دولية غير مسبوقة بتقنيتها وتجهيزاتها، وسائل الاعلإم الغربية والعربية، والهدف منها إقناع المجتمع الدولي بأن الإتحاد الروسي يستعد لغزو أراضي أوكرانيا.
قامت هذه الحملة الإعلامية على كسر كل المعايير الصحافية، وذلك عبر نشر معلومات مضلّلة وأخبار كاذبة من أجل إقناع الرأي العام العالمي بنوايا موسكو العدوانية تجاه أوكرانيا.
في الوقت نفسه، تعمّدت وسائل الإعلام سياسة تجاهل التفسيرات العقلانية للمسؤولين الروس والتأكيدات المتكررة بالتزام موسكو بتسوية دبلوماسية سلمية للأزمة في أوكرانيا ، على أساس إتفاقية “مينسك” (إعلان الرئيس الروسي قبل أيام سقوطها متهماً كييف بعدم الإلتزام بها وخرقها باستمرار)، والتي بموجبها من حقّ الدول إعادة نشر قواتها المسلحة على أراضيها، وكذلك التصريحات حول الطبيعة الدفاعية للتدريبات العسكرية التي يتم إجراؤها بالتعاون مع القوات المسلحة البيلاروسية.
في المقابل يتمّ تجاهل مخاوف موسكو، بأن يساعد الغرب أوكرانيا في الإمدادات العسكرية واللوجستية الفنية، ويرسل مدربين عسكريين لإجراء مناورات واسعة وخطيرة في المدن الأوكرانية الحدودية مع روسيا.
في الواقع قادت وسائل الإعلام الغربية عبر الحرب الإعلامية، حملةً سياسيةً منظّمة، حيث عمدت في أخبارها ونشراتها الإخبارية على مدار الساعة على تكرار معلومات غير موثوقة بطريقة منسّقة، بهدف تشويه مطالب روسيا بضمانات أمنية، في مقابل تبرير التطلعات الجيو-سياسية الغربية وتوسّعها العسكري على الأراضي الأوكرانية.
عملياً الحملة تُقاد عبر وسائل الإعلام الغربية الأكثر شهرة وفي مقدّمتهم وكالة “بلومبيرغ” للأنباء، المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمؤسسات السياسية الأميركية. في الآونة الأخيرة، عمدت الوكالة الى نشر، وفي مناسبتين، أخباراً “غير مؤكّدة” ومزيفة، ووجدت القدرة للإنتشار على أعلى المستويات. على سبيل المثال قبل حفل افتتاح الألعاب الأولمبية الـ22 في بكين عاصمة الصين، كتبت الوكالة المذكورة نقلًا عن مصدر ديبلوماسي صيني طلب عدم ذكر اسمه، أن “بكين خلال محادثاتها الأخيرة مع بوتين طلبت منه عدم شنّ غزو على أوكرانيا خلال الألعاب”. هذا الخبر المفبّرك ردّت عليه سفارة جمهورية الصين الشعبية في موسكو، معتبرةً إنه “استفزاز صريح وكذبة واضحة”. بالتزامن تم نفي الخبر من الجانب الروسي عبر السكرتير الإعلامي لرئيس روسيا ديميتري بيسكوف والمتحدّثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا.
وفي 5 شباط 2022، نشرت وكالة “بلومبيرغ” عنوانًا عريضًا لخبرٍ مزيّف “روسيا تغزو أوكرانيا”، هذا العنوان العاجل أحدث بلبلةً كبيرة ممّا دفع بالمحررين إلى إصدار بيانٍ يوضحون فيه أن الخبر المبلّغ عنه كان “خطأ”. فيما لاحظ صحافيون وخبراء مستقلون، أن الأخبار المزيّفة يتمّ التعامل معها بجدّية، ومن المتوقّع أنها ستؤدي إلى انهيار اقتصادات العديد من البلدان، بالإضافة الى تأثيرات جيو-سياسية خطيرة على العالم بأسره. ومن المؤكد أن الأخبار المزّيفة التي تبثّها وسائل الإعلام الغربية، يتمّ استخدامها بشكلٍ أسوأ في بروبوغاندا سوداء ولا يمكن تفسير انتشارها إلاّ للتلاعب بالرأي العام العالمي وتضليله.
وكان لافتاً موقف المسؤولين الغربيين في سياق حملة تضليل ضخمة ضد روسيا، فإنهم يتجنّبون إعطاءها تقييمًا مناسبًا ، وهذا السلوك يؤكد بشكل مباشر مشاركتهم في انتشار الأخبار المزيّفة.
في الوقت نفسه، يعلن المكتب الصحفي للبيت الأبيض عن رغبته في تقديم أكبر قدر ممكن من الأدلة. وفي الواقع ما ذكرناه هو المعلومات التي رُفعت عنها السرية. حيث أكّدت السكرتيرة الإعلامية للرئيس الأميركي جينيفر بساكي أن “هناك قيودًا، ولا نستطيع كشف العمل الإستخباري”.
فيما يتذرّع البيت الأبيض ووسائل الإعلام الغربية في العالم “بالتهديد الروسي”، تستمرّ القوات الأميركية في انتشارها بأوروبا الشرقية. ففي بولندا وعلى بعد 90 كيلومترًا فقط من الحدود مع أوكرانيا، هبطت أولى طائرات النقل العسكرية الأميركية حيث قاموا بنشر 1700 جندي أميركي مع معداتهم العسكرية. أما في رومانيا وألمانيا، يتمركز ألفا جندياً آخرين. علماً أنه في وقتٍ سابق، وضعت الولايات المتحدة 8500 جندياً في أوروبا في حالة تأهّب قصوى.
في البحر الأبيض المتوسط، إنتهت مناورة واسعة لحلف شمال الأطلسي، ما عُرفت بـ “ضربة نبتون – 22” بمشاركة كلّ من ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا واليونان، حيث قدمت الولايات المتحدة مجموعتها القتالية، بقيادة حاملة الطائرات “هاري ترومان” للمناورات وذلك بحسب البنتاغون، من أجل دعم الحلفاء واحتواء التهديد الروسي.
في غضون ذلك ، أتاحت الحفريات التي أُجريت على أراضي جمهوريتي “دونيتسك” و “لوغانسك” اللتين تحظيان باعتراف موسكو فقط جانباً من الإكتشافات الرهيبة، حيث تمّ انتشال جثث مئات المدنيين من عدة مقابر جماعية أنشأتها السلطات الأوكرانية في النصف الثاني من عام 2014. في هذه المنطقة وبالقرب من بلدات سابوفكا وكراسنودون وبيرفومايسك وفيدنو وسلافيانوسربسك، تمّ العثور على خمسة مقابر جماعية في الأشهر الأولى من النزاع.
خلال ثلاثة أشهر من عمل المجموعة، تم انتشال 267 جثة. من خلال الفحص الأولي للجثث مع بقايا الملابس يمكن الإستنتاج أنهم مدنيون، قتلوا بين صيف وخريف 2014 نتيجة العمليات الحربية الأوكرانية. وتمّ تحديد الهوية البعض منهم ، وسُلّمت بعض الجثث إلى أهاليهم لإعادة دفنهم. لكن هذه ليست آخر الإكتشافات المرعبة.
وبالخلاصة يمكننا الحديث عن مؤامرة من قبل سلطات الدول الغربية ووسائل الإعلام التابعة لها، من أجل تصعيد التوتر المصطنع حول أوكرانيا من خلال بثّ كمية هائلة ومنسّقة من المعلومات الكاذبة، خدمةً للمصالح الجيو-سياسية على وجه الخصوص، وذلك من أجل صرف الإنتباه عن خطتهم العدوانية.
ليبانون ديبايت” – وليد خوري