لا بأس، فالدولة بكافة أركانها تخلّت عن “الخطّ 29” في لحظةٍ كان في الإمكان فرض الشروط اللبنانية على المفاوض الأميركي وتحصيل مكاسب أكثر، وقد يجد البعض ما يُبرّر ذلك عطفاً على النيّة في “أكل العنب” كما قال وزير الخارجية عبدالله بو حبيب بالأمس، لكن هل يجوز أكل “العنب” في محضر الناطور القاتل؟
ما يهولنا فعلاً، ليس مقدار التخلّي الرسمي عن الحقوق ما دام أن المنظومة شهيرة في “البيع بالمجّان”! وفي الحقيقة، تعاملت الدولة اللبنانية منذ البداية مع “الخطّ 29″، على أساس أنه “خطّ مصلحي” يؤمّن لها تعزيز موقعها التفاوضي وسرعان ما ستتخلّى عنه حين “تقبض”، وهذا عاكس الطريقة التي تعامل فيها الوفد العسكري التقني المفاوض، لكن المفاجأة أن الدولة أسرعت في التخلّي قبل أن “تقبض”، وللحقيقة، أنها باعت الخطّ حين وجدت أنه يعرّض مصالحها للخطر.
ثم إن مستوى وحجم الإنكار والتخبّط والخداع الرسمي لا مثيل له، وإحدى النماذج يمكن تلخيصها بالرسالة التي بعثها لبنان إلى الأمم المتحدة نهاية الشهر الماضي وتوضح بشكل قاطع لا لبس فيه، كيف أن للبنان حقوقاً مثبتة بالحجج القانونية كان سبق وعرضها على طاولة المفاوضات غير المباشرة وتسمح له بتوسيع نشاطاته جنوباً، وتصوروا أن الوزير الذي وضع توقيعه عليها كان أول من تنصّل منها!
ليس سراً، أن وزير الخارجية بدايةً، تعامل مع الرسالة بطريقة مكتومة وأوحى أن لا علاقة له بها. وفي أثناء وصول “مشروع الرسالة” من اليرزة إلى قصر بسترس، أبلغَ الوزير قصر بعبدا حول طبيعتها فطلب “المستشارون” إستردادها، وهناك أُجريت عمليات تنقيح خفّفت من قوتها من دون القدرة على إذابتها، وللعلم شكّلت الرسالة بمضمونها صدمة. في النهاية استردّ بو حبيب الرسالة ثم أرسلها إلى الأمم المتحدة، وقد مضى على ذلك أكثر من أسبوع من تاريخ وصولها إلى قصر بسترس، ثم اختفى عن السمع.
خلال تلك الفترة، حاولت مجموعة من الصحافيين التواصل معه للتأكّد من طبيعة الرسالة بعدما كان “ليبانون ديبايت” أول من نشرها. وبحسب المعلومات تهرّب “بو حبيب” من الإجابة أكثر من مرة، إلى أن وقع بشباك أحد الزملاء بعدما أبلغه أن “ما من رسالة أُرسلت من لبنان إلى مجلس الأمن” على الرغم من أن الزميل كان يقرأ النص حرفياً وأبلغه بأن الرسالة بين يديه فعلاً! منذ تلك اللحظة كان واضحاً أن بو حبيب، يحاول التنصّل من الرسالة وإن توقيعه عليها جاء للضرورة ومجرد توقيع وما اسرعه في التنصل منه، وخلال تلك المدة التي صمت فيها كان يُرسل إشارات إلى المرجعيات حول نفي علاقته بها، وثمة من يعتقد بأن رسالةً من هذا القبيل ورّطته، فكان لا بدّ له من التراجع عنها، وحلّ ذلك كان لا بدّ أن يحصل إعلامياً كحال ما حدث في قصر بعبدا التي تراجعت نصياً وعبر الإعلام عن مواقف سابقة اعتمدتها.
سياسة التنصّل هذه كان لها ما يمهّد لها، من زيارة عاموس هوكشتاين الأخيرة إلى بيروت، إلى حركة السفيرة الأميركية دوروثي شيا، التي تحاول تأمين ضمانات “مكتوبة” للتنازل اللبناني المعلن كي لا يُكرّر اللبنانيون إنعطافهم عن المسار وهم المتّهمون من الجانب الاسرائيلي، أنهم غيرّوا مواقفهم من الحدود 7 مرات، وللعلم. إن هوكشتاين الذي رفض منح اللبنانيين ورقةً مكتوبة حول اقتراحاته “الحدودية” التي يسوّقها في بيروت، نال في المقابل إعترافات “مدوّنة” في الصحف من قبل الساسة الكبار، وأخرى مرئية من جانب وزارة الخارجية، ولو أن هؤلاء يدّعون رفضهم منح أي “وثيقة” إلى هوكشتاين طالما أنه لم يمرّر لهم نصاً مكتوباً حول اقتراحاته!
وكذا كان يفعل هوكشتاين سابقاً كذلك يفعل الآن، وقد ربط عودته بنيله نصوصاً مكتوبة ليبني على الشيء مقتضاه، ولو أن الصورة باتت واضحة بالنسبة إلى تل أبيب التي باتت تتعامل مع تنازلات رئاسة الجمهورية ومواقف وزارة الخارجية على أنها “إقرارٌ نهائي” بالتخلّي عن المنطقة 29، وبالتالي ما لم ينجح الجانب الإسرائيلي في تحقيقه على طاولة المفاوضات نتيجة إصرار الجيش عليه، ناله في السياسة وبطريقة شبه مباشرة أراحت عملياً الشركات الناشطة ضمن منطقة الخط 29.
لكن ما يشكّل أذيةً، أن الجانب اللبناني كان في مقدوره فيما لو استأنفَ خطواته واستفاد من قوة “الرسالة” وانبرى صوب تعزيزها بتوقيع التعديلات على المرسوم 6433، أن يوسّع منطقته إلى الجنوب من الخطّ 23، وفيما لو حصل ذلك في أثناء انهماك هوكشتاين بوساطته، لتمكّن لبنان من الوصول إلى نتائج مختلفة أقلّها خلال الشهرين المقبلين، حدّها الأدنى حفظ حقل “قانا” كاملاً. وبخلاف ما يوزعه الرسميون ويسوّقونه عبر “الجيوش الصمّاء” على مواقع التواصل، فإن تراجع الجانب اللبناني إلى حدود الخطّ 23، يُفقده القدرة على ضمان كامل “حقل قانا”، الذي وضمن هذا التنازع أصبح خارج المنطقة اللبنانية، ومنطقياً الجانب الإسرائيلي ليس في وارد منح هدايا إلى الخصم اللبناني على شكل جوائز ترضية تقع في المنطقة التي اعترف لبنان أنها لا تعود إليه!
في المقابل وإن التزمَ “حزب الله” الصمت، لكنه رفض ويرفض منح الدولة اللبنانية تأييداً علنياً حول الإجراءات التي تمّ اتخاذها مؤخراً بما له صلة بموضوع التراجع عن الخطّ 29 إلى الخطّ 23، بدليل أن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أعفى نفسه خلال الخطاب الأخير في ذكرى الشهداء القادة من اتخاذ أي موقف، وهذه إشارة بالغة الأهمية إلى الجانب السياسي الذي يسعى إلى نيل تفويض من الحزب يمكن أن يسوّقه خلال زيارة هوكشتاين المقبلة، كأن يقول أن الحزب لا علاقة له بالترسيم وبالتالي لا يشكّل خطراً عليه أو على أي اتفاق مستقبلي، وهو ما يعمل الجانب الإسرائيلي على محاولة استثماره الآن كالزعم بأن الحزب مثلاً غطى “بطريقةٍ ما” تنازلات الجانب اللبناني في ما خصّ قضية ترسيم الحدود!
يُذكر أن “حزب الله” من خلال كتلة “الوفاء للمقاومة”، قد نبّه على أثر اجتماعها يوم الخميس الماضي من “أفخاخ الوسيط الأميركي” في عملية ترسيم الحدود، وهذه إشارة إلى عدم ثقة الحزب بما يقدّمه هذا الوسيط إضافةً إلى طريقة تعامل الدولة معه، وهذه فرضية يمكن عطفها على رفض الحزب التراجع أمام الإسرائيلي إلى مقدارٍ يُصبح من الواجب لاحقاً على الجانب اللبناني الدخول في عملية تطبيع مع تل أبيب، لتقاسم الحصص المتبقّية من حقل “قانا” والذي يرفضه الحزب كلياً وينتظر “الساعة صفر” للإعلان عنه.؟