رغم انّ أخبار الموازنة، طغت على ما عداها من تطورات في الأيام القليلة الماضية، نظراً الى تداعياتها المتوقعة على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، إلّا أنّ ما تسرّب من خطة توزيع الخسائر، ورفض صندوق النقد الدولي للخطة، لا يزال يحظى بالاهتمام، انطلاقاً من انّه يكشف الواقع المعقّد للأزمة، ويضع حداً للآمال وحالات الإنكار التي كانت سائدة، وبعضها لا يزال قائماً.
لم تكشف خطة توزيع الخسائر وطريقة «إعادة» الودائع عمق الأزمة المالية فحسب، بل سلّطت الضوء بوضوح على عقم محاولات تجميل الواقع عبر الإيحاء بأنّ اصلاح الوضع بالتي هي أحسن، لا يزال مُتاحاً. صحيح انّ الافكار التي طُرحت توحي بأنّ توزيع الخسائر شمل الأطراف الاربعة المعنية، الدولة، مصرف لبنان، المصارف والمودعين، لكن الصحيح أيضاً انّ التوزيع لم يكن عادلاً اولاً، ولم يكن واقعياً ثانياً. والأهم، انّ الخطط طويلة الأمد (15 سنة)، والتي تتضمّن تعقيدات تنفيذية تحتاج شفافية ونزاهة وقدرة على التحكّم وثقة، لا يمكن أن «تقطع» في بلد فيه هذا القدر من الفساد واللاثقة بمن يعِد بتنفيذ الخطط.
وهنا، لا بدّ من تسليط الضوء على الشطر المتعلق بطريقة «إعادة» الودائع الكبيرة، ما فوق الـ150 الف دولار. وإذا استثنينا الشق المتعلق بالـBail in (55% من الودائع التي تفوق قيمتها الـ 500 الف دولار)، يتبيّن انّ مشروع الصندوق السيادي المنوي تأسيسه ليكون أداة استثمارية تحقق إيرادات سنوية تستخدم في دفع الودائع، ينطلق من واقع سلبي، إذ ستكون المطلوبات (Liabilities) لديه حوالى 40 مليار دولار. فيما موجوداته التي ستضمن قدرته على العمل غير واضحة المصادر. ويبدو التمويل الإفتراضي المطروح وكأنّه مشروع وهمي يقضي بتنشيف مصرف لبنان من كل الدولارات الاحتياطية الموجودة لديه، وتحميل الخزينة استحقاقات دين سنوية على مدة 15 سنة، وإضافة الذهب الى هذه الدولارات، ومحاولة «الإقلاع». وحتى مع احتساب الذهب، لا يكفي المبلغ لتحقيق توازن أولي في انطلاقة الصندوق. فهل يمكن الوثوق بأنّ مشروعاً من هذا النوع، يمكن ان يحقق الهدف منه في تمويل إعادة الودائع؟
في العادة، تستند الصناديق السيادية للثروة (SWF)، على مخزون مالي ناتج من إيرادات الدولة. وتستند الصناديق السيادية لجذب الاستثمارات الى شفافية مطلقة في الإدارة وإلى اقتصاد ينمو بمعدلات جيدة، وإلى عوامل جذب قائمة على الثقة بمستقبل الدولة وقوانينها. فهل تتوفر أي من هذه المعطيات، لكي يقتنع صندوق النقد بأنّ مشروعاً من هذا النوع يمكن أن ينجح؟
هناك تجارب عديدة في العالم تتعلق بالصناديق السيادية، منها الناجح ومنها الفاشل. لكن الأكيد، أن لا إمكانية لنجاح هذا النوع من الصناديق في دولة فاسدة، مهما توفّر من إمكانات وقدرات. فكم بالحري اذا كانت الدولة فاسدة، وتريد ان تُنجح تجربة صندوق سيادي عليه «دين» مسبق يقدّر بـ40 مليار دولار، في اقتصاد أصبح حجمه اقل من 20 مليار دولار، وموازنته هبطت من 17 مليار دولار الى اقل من 3 مليارات دولار؟
في ماليزيا، تجربة تستحق ان تُذكر، تتعلق بالصندوق السيادي الذي أنشأه رئيس الحكومة السابق نجيب رزاق (Najib Razak) تحت مسمّى (MDB1)، في العام 2009. ورغم انّ ضخ الأموال في هذا الصندوق كان سخياً، ولم ينطلق المشروع من تحت الصفر، كما هي حال الصندوق المقترح في لبنان، انتهى الأمر بفشل ذريع، بحيث انّ ديون الصندوق اقتربت من 6 مليارات دولار في العام 2015، حين اندلعت الفضيحة. ولم يكن الفشل نتيجة سوء اختيار طرق الاستثمار، بل بسبب الفساد، وقد تبين انّ حوالى 4,5 مليارات دولار سُرقت الى جيوب المستنفعين، وعلى رأسهم نجيب رزاق.
اليوم، لا تزال محاكمة نجيب في ماليزيا قائمة، وبعد حكم صدر في حقه بالسجن لمدة 12 سنة، لا تزال القضية عالقة في محاكم الاستئناف، ولو من الواضح انّها لن تنتهي سوى بإدانة نجيب ومن عاونه في سرقة المال العام. والمفارقة التي ينبغي ذكرها، انّ ماليزيا دولة تتمتع بقدر وافر من الشفافية والحوكمة، وهو الامر الذي أتاح إسقاط نجيب في الانتخابات، ومن ثم تقديمه الى المحاكمة. والمفارقة الثانية، انّ صندوق الـMDB1 كان يعمل بتغطية محاسبية من شركات عريقة، ومنها شركة KPMG التي تتولّى التدقيق حالياً بحسابات مصرف لبنان. وقد وافقت الشركة على دفع عطل وضرر للحكومة الماليزية قدره 80 مليون دولار بعد اعترافها بمسؤوليتها في عملية التمويه المحاسبي في الفضيحة.
المخاطر الحقيقية في الصناديق السيادية تكمن في الحوكمة والفساد. وإذا كانت الصناديق المليئة تنتهي على شاكلة الصندوق الماليزي، فكيف يمكن ان يكون مصير صندوق مُثقل بالديون قبل الإقلاع، في بلد مثل لبنان؟