قد أكون واحدًا من بين قلائل من الإعلاميين، الذين لم تربطهم أي علاقة مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
أكتب هذه السطور وانا بعيد عن لبنان، وطني الغالي الذي لا بديل له، الآف الأميال. وهذا ما يجعلني متحرّرًا من أي ضغط أو أي إتهام يستسهل البعض إطلاقه جزافًا. فما أكتبه يبقى ضمن أطر المهنية والموضوعية غير الخاضعة لأي مساومة أو إبتزاز، وإن كانت هذه الموضوعية تدخل في حيز النسبية، إذ لا حقيقة مطلقة في أي أمر.
قد يكون “الحاكم”، وهي تسمية لا أستلطفها كثيرًا، مخطئًا في ما تمّ إتخاذه من إجراءات مالية أدّت إلى الحال المزرية التي وصلنا إليها. ولكنه ليس المخطىء الوحيد.
رياض سلامة لم يكن “فاتحًا على حسابه”، وإن كان لقبه يوحي بذلك. كان ينفّذ سياسة أهل الحكم بغطاء مباشر، ومن بينهم من يشنّون عليه اليوم أشرس الحملات. فلو لم يكن هذا الغطاء موجودًا لما تمكّن رياض سلامة، ولوحده، من تنفيذ سياسة مالية كانت تحظى بمباركة شبه جماعية داخليًا، وإشادة خارجية. والدليل أن سلامة حصل، ولمرّات متتالية، على لقب أفضل حاكم لمصرف مركزي في العالم.
فلو كان رياض سلامة “الفاسد” الوحيد، كما يحاول البعض تصويره، وقبل الإنتخابات النيابية مباشرة، لما كان “صمد” كل هذا الوقت في وجه من كان يتلقى منه حتى بالأمس القريب التوجيهات السياسية لتنفيذ ما كان يجب تنفيذه.
لست هنا في صدد إصدار أحكام عرفية في حق “الحاكم” أو غيره، وبالتأكيد لست في وارد الدفاع عنه. جلّ ما في الأمر أنه لكثرة ما يثار من غبار سياسي هذه الأيام يُخشى أن تضيع الحقيقة تمامًا كما ضاع جنى عمر اللبنانيين، الذين جمعّوا هذه الـ”تحويشة” بكثير من التعب والسهر العرق، وأحيانًا كثيرة بالدّم.
فإذا كان رياض سلامة هو المرتكب الوحيد، وإذا كان المسؤول الوحيد أيضًا عمّا آلت إليه أوضاع اللبنانيين فلماذا سكتوا عنه دهرًا، ولماذا تعايشوا مع هذا الواقع خمس سنوات وأربعة أشهر، ولماذا تمّ التجديد له ، ولماذا لم يُحاسب قبل أن تتفاقم الأمور، وقبل أن يصبح إصلاح ما أفسده الدهر شبه مستحيل على العطّار، الذي يحاول بشتى الطرق إنقاذ ما يمكن إنقاذه، تارة عبر إقرار موازنة الممكن، وطورًا عبر مفاوضات جريئة وشفافّة مع صندوق النقد الدولي.
فأي محاولة لـ”قبع” حاكم مصرف لبنان اليوم تشبه إلى حدّ كبير من يحاول تبدّيل أحصنة عربته في منتصف النهر، أو من يبدّل ضباطه في الوقت الذي يهدّد أسواره غزاة لا يرحمون.
فالنائب جبران باسيل يعرف تمام المعرفة أن هذا الأمر يصعب تحقيقه وقد شارف العهد على نهايته. ويعرف أيضًا أن محاربة الطواحين في هذا الظرف بالذات لن تفيده في الحواصل الإنتخابية.
ثمة من همس في إذنه أنه إذا تمكّن من “قبع” رياض سلامة اليوم يكون كمن يظهر في عيون البعض على أنه “المنقذ”، أو على أنه الوحيد الذي يحارب الفساد.
ولكن، ولسوء الطالع، وعلى رغم أن كثيرين يحمّلون سلامة مسؤولية إنهيار الليرة ومسؤولية لعبة “يويو” الدولار، فإن ذاكرة آخرين لا تزال في أحسن حالاتها، وإن تنسى فلن تنسى أن السياسة المالية للدولة يحدّدها ويفرضها أهل السلطة مجتمعين، على رغم محاولات التمّلص من هذه المسؤولية.
فهذه السياسة المتّبعة اليوم من قِبل “التيار الوطني الحر”، وعشية الإنتخابات النيابية، إن حصلت، هي تمامًا كسياسة الذين يسقون شتلة إصطناعية كل يوم وينتظرون أن تعطيهم ثمرًا أو زهرًا، أو كما يُقال في قرى الخير والبركة “وقمح راح تاكلي يا حنة”.