في زحمة المقاربات التي تناولت تفاهم مار مخايل الذي وُقّع في 6 شباط من العام 2006، لا بدّ من التوقّف بعد 16 عاماً على هذا التفاهم، عند نتائجه على مستوى المشهد السياسي ليس بجزئيّاته اليومية، بل بما هو متعلّق بموازين القوى الطائفية والسياسية. وفي هذه المقاربة، لا بدّ من العودة إلى ما هو أبعد من 6 شباط 2006 بكثير، إلى 6 شباط 1984، اليوم الذي سُمّي بانتفاضة 6 شباط على الرئيس أمين الجميّل رفضاً لاتفاق السابع عشر من أيار. تتشابه التواريخ وكأنّها إشارات. فعلى الرغم من الاختلاف بين التاريخين في الظرف والأشخاص، فإنّ 6 شباط 1984 شكّل أول صعود عسكري للشيعيّة السياسية نفّذه رئيس حركة أمل نبيه بري، فيما كان 6 شباط 2006 تكريساً سياسيّاً لمسار صعود الشيعيّة السياسية نفّذه الأمين العامّ لحزب الله السيد حسن نصرالله.
بعد 16 عاماً على تفاهم مار مخايل الذي أدّى إلى انتخاب رئيس أكبر كتلة مسيحية رئيساً للجمهورية بعد انهزام المارونية السياسية بأعوام، وأدّى أيضاً إلى تعاظم الشيعية السياسية لتتحوّل إلى قوة إقليمية أكبر من لبنان، هل ينفجر التفاهم بعد خروج ميشال عون من قصر بعبدا على وقع عدم قدرة نظام الطائف بما يكرّسه من مناصفة على استيعاب تعاظم قوة الشيعية السياسية؟
لم ينجح التفاهم في بناء الدولة. هو اعتراف أهل التفاهم أنفسهم. عام 2006، يقول صانعو وخيّاطو هذه الورقة إنّها صُنعت لتكون مساراً استراتيجياً ميثاقيّاً منفتحاً على مكوّنات طائفية أخرى يؤسّس لبناء دولة مؤسّسات قويّة.
يقول خيّاطو هذا التفاهم إنّه بُني على قناعة الرئيس ميشال عون صانع القرار 1559 بسيادة لبنان وحصر السلاح في يد الدولة اللبنانية، وإنّ عون لم يتخلَّ عن هذه القناعة حتى في لحظة توقيعه تفاهم مار مخايل. ويقول أيضاً خيّاطو هذا التفاهم إنّه بُني على تأكيد الأمين العامّ لحزب الله السيّد حسن نصرالله أنّه يريد دولة قوية وعادلة تستطيع حماية الأراضي اللبنانية، وعندئذٍ يسلّم سلاحه.
بعد مضيّ 16 عاماً، يعترف خيّاطو هذا التفاهم أنفسهم بأنّه تحوّل إلى صفقة “أنا بحميلك سلاحك وأنا بحميلك سلطتك”. سقطت الورقة بعدما خرج حزب الله في مسار تعاظم قوّته عن قواعد مار مخايل، وحين خرج عون عن التزاماته، سواء عن عجز أو عن قصد، فالنتيجة واحدة.
اليوم، وعلى الرغم من التصريحات العلنية التي تؤكّد بقاء التفاهم وحاجته فقط إلى تعديل وتطوير، غير أنّ المتابعين لمسار العلاقة بين الطرفين يحزمون سقوطه لعوامل عدّة:
– أوّلاً، تغيّرت ظروف طرفيْ التفاهم اليوم بعد 16 عاماً على إبرامه. يومذاك كان الطرفان محاصَرين في السياسة و”خارج المنظومة”. اليوم أصبح عون وتيّاره في السلطة، فيما أصبح حزب الله خارج الحدود اللبنانية، وبات ما يفرّقهما أكثر ممّا يجمعهما.
– ثانياً، لم يعُد ميشال عون نفسه قادراً على نقل المزاج المسيحي من ضفّة إلى ضفّة، كما فعل عام 2006. الزعيم الماروني، الذي نقل المسيحيين إلى براد بزيارة تاريخية، غارقٌ في ما أنتجه تفاهمه مع حزب الله. وإذا كان عون نفسه قد أصبح عاجزاً عن استيعاب فائض القوة وإقناع جمهوره بجدوى التفاهم، فكيف بالحريّ جبران باسيل الذي لا يملك قدرة نقل جمهور التيار الوطني الحر من ضفة إلى ضفة وهو بنفسه غارق أيضاً في تعاظم مطالبة جمهوره له بالانفصال عن حزب الله.
– ثالثاً، في حال حصول التسوية الدولية الإقليمية في المنطقة، وانعكاس ذلك على لبنان وعلى دور حزب الله فيه، بما يريح لبنان ويدخله مرحلة سياسية مختلفة، فستكون علاقة حزب الله مع القوى اللبنانية والمسيحية أكثر مرونة وانفتاحاً، ولن يعود بحاجة إلى مظلّة مسيحية يوفّرها له التيار الوطني الحر.
كلّ شيء يوحي بأنّ ورقة التفاهم سقطت وتنتظر دفنها بعد خروج الرئيس عون من قصر بعبدا ودخول لبنان حقبة جديدة.
فهل تتكرّس حقبة الشيعيّة السياسية بحكم الأمر الواقع وحده أم يكون لها ميثاق ونظام؟
هو مسار لا بدّ من التذكير بمراحله التي اختلفت فيما بينها. ففي زمن المارونية السياسية بلغت ذروتها دولة المؤسسات والاقتصاد المتين وعلاقات لبنان مع الدول العربية والخليجية ومع الغرب، وكان لبنان ملاذاً لحركات ثقافية وفكرية مختلفة على الرغم من كلّ الإشكاليات الأخرى التي لا مجال لذكرها هنا. وكذلك كان لبنان في زمن السنّيّة السياسية التي افتتحها الرئيس رفيق الحريري.
أمّا اليوم في زمن الشيعيّة السياسية المطبّقة أمراً واقعاً، فلا مؤشّرات إلى استمرار لبنان على ما كان عليه في زمن المارونيّة والسنّيّة السياسيّتين، بل هناك مؤشّرات إلى قيام الشيعية السياسية على أساس فائض القوة وسط انهيارات بالجملة، وإن تعدّدت الأسباب التي أوصلت لبنان إليها.
انتهى عناد المارونية السياسية بزعيمين في المنفى وزعيم في الطبقة الرابعة تحت الأرض في وزارة الدفاع، وانتهى زمن السنّيّة السياسية بإعلان زعيم سنّيّ اعتزاله العمل السياسي ولو “مؤقّتاً”، فهل يتعلّم أهل “السلطة الشيعية” الدرس التاريخي أم يصلون إلى نهايات مشابهة؟ من يقرأ التاريخ جيّداً يدرك استحالة معاندة حركة التفاهمات الدولية ولو كانت لمصلحته مؤقّتاً وعلى مضض.
Ch23