إذا تمكّنت حكومة ميقاتي من تمرير خطتها الماليّة، كما أعدّتها اللجنة المكلّفة بالتفاوض مع صندوق، فالنتيجة ستكون على الشكل التالي: على مدى 15 سنة مقبلة، سيقوم لبنان بطبع النقد لسداد 57 مليار دولار من الودائع المدولرة بالليرة اللبنانيّة، وبأسعار صرف متفاوتة. بمعنى آخر، أكثر من 55% من الودائع المقومة بالعملة الأجنبيّة، والتي تبلغ قيمتها الإجماليّة نحو 104 مليار دولار كما قدّرتها الخطّة نفسها، سيتم سدادها بالعملة المحليّة، في عمليّة كافية لتهشيم الليرة اللبنانيّة بشكل مستمر طوال عقد ونصف العقد من الزمن، لتمكين القطاع المصرفي من ردم فجوة الخسائر التي يعاني منها اليوم.
باختصار، سيكون عنوان المرحلة المقبلة التضحية بقيمة العملة المحليّة والقيمة الشرائيّة لأجور المقيمين، في سبيل إعادة إنهاض القطاع المصرفي. مع الإشارة إلى أن هذه العمليّة ستحمّل المودعين أيضًا جزءاً كبيراً من كلفة التصحيح، نتيجة الفارق الشاسع بين أسعار الصرف المتعددة المعتمدة لسداد قيمة الودائع، وسعر صرف الدولار الفعلي في السوق.
جنون طبع النقدخلق النقد للتعامل مع الأزمة المصرفيّة يدخل في جميع تفاصيل الخطّة، مع اختلاف أسعار الصرف المعتمدة لسداد قيمة الودائع لكل شريحة من شرائح المودعين:
– الودائع الناتجة عن الفوائد التي سددتها المصارف للمودعين بالدولار منذ العام 2015، والبالغة قيمتها الإجماليّة 16 مليار دولار، سيتم سدادها بالليرة وبسعر صرف 5000 ليرة للدولار. سينتج عن هذه العمليّة اقتصاص بنسبة 75% من قيمة هذه الودائع، بسبب سعر الصرف المتدنّي المعتمد للسداد، بالإضافة إلى خلق ما يقارب 80 ألف مليار ليرة من النقد بالعملة المحليّة.
الودائع الناتجة عن عمليات تحويل الأموال من الليرة اللبنانيّة إلى الدولار الأميركي منذ تشرين الأوّل 2019، والبالغة قيمتها الإجماليّة 35 مليار دولار، سيتم سدادها بالليرة وبسعر صرف 12,000 ليرة للدولار. سينتج عن هذه العمليّة اقتصاص بنسبة 40% من قيمة هذه الودائع، بسبب سعر الصرف المتدني المعتمد للسداد، بالإضافة إلى خلق ما يقارب 420 ألف مليار ليرة لبنانيّة من النقد بالعملة المحليّة.
– الودائع التي تتراوح قيمتها بين 150 و500 ألف دولار أميركي للوديعة الواحدة، والبالغة قيمتها الإجماليّة نحو 6 مليار دولار، سيتم سدادها بالليرة، وبسعر صرف 20,000 ليرة للدولار. سينتج عن هذه العمليّة خلق ما يقارب 120 ألف مليار ليرة لبنانيّة من النقد بالعملة المحليّة.
في المحصّلة، سيتم “ليلرة” نحو 57 مليار دولار من الودائع المصرفيّة بالعملة الأجنبيّة، أي نحو 55% من الودائع الموجودة حاليًّا بالعملة الأجنبيّة في النظام المصرفي. كما سينتج عن هذه العمليّة خلق نحو 620 ألف مليار ليرة من النقد بالعملة المحليّة، لسداد قيمة الودائع بهذه الطريقة. مع العلم أن قيمة السيولة التي سيتم خلقها بالليرة على امتداد السنوات 15 المقبلة توازي نحو 15 ضعف قيمة النقد المتداول حاليًّا بالليرة في السوق المحليّة، ما يعطي فكرة واضحة عن حجم التدهور المتوقّع في قيمة الليرة اللبنانيّة بعد دخول الخطّة حيّز التنفيذ.
جريمة على مدى 15 سنةعلى مدى 15 عامًا، سيكون المقيمون في لبنان ضحايا جريمة مستمرّة، تقوم على تدفيعهم ثمن الخسائر المصرفيّة من خلال التدهور الذي سيصيب قيمة الليرة، ومعها قيمة الأجور والرواتب المقومة بالعملة المحليّة. وعلى أي حال، وفي حال أرادت الدولة اللبنانية “تقسيط” قيمة النقد الذي سيتم خلقه على مدى السنوات 15 بالتساوي، فمن المرتقب أن تبلغ قيمة النقد الذي سيتم خلقه سنويًّا نحو 41 ألف مليار ليرة لبنانيّة، وهي قيمة تساوي تقريبًا إجمالي النقد المتداول حاليًّا في السوق. ببساطة، في كل سنة من السنوات 15 المقبلة، سيُضاف إلى الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة كتلة أخرى، توازي قيمتها الحاليّة.
كارثة الخطّة الماليّة التي وضعتها حكومة ميقاتي لا تنتهي هنا. فبالتوازي مع خلق النقد للتعامل مع الخسائر المصرفيّة، سيكون على الحكومات المقبلة تخصيص ما تقارب قيمته 10 مليار دولار أميركي من أملاك الدولة اللبنانيّة، لربط هذه الأملاك بسندات أو أسهم دائمة، يمكن بيعها لأصحاب الودائع المصرفيّة. وبهذه الطريقة، سيتم التعويض على كبار المودعين من خلال منحهم هذه السندات والأسهم، التي ستكفل استفادتهم من عوائد استثمار أملاك الدولة اللبنانيّة المربوطة بها. وبذلك، ستكون الحكومة قد كرّست مبدأ تبديد الأموال العامّة لإنقاذ القطاع المصرفي المفلس، عبر تخصيص هذه الأموال لسداد جزء من الودائع المصرفيّة. مع العلم أن هذه الآليّة تفرض وضع أصول الدولة كضمانة لسداد الالتزامات للمودعين، ما يعني أن أصول الدولة نفسها يمكن التفريط بها وبيعها لسداد الودائع، إذا لم تكفِ عوائد استثمار الأصول للسداد.
المجتمع بأسره
بعد سنتين وشهرين من الانهيار المتفلّت من أي رؤية أو خطّة للحل، تأتي خطة الحكومة لتبشّرهم بعقد ونصف عقد من الفوضى النقديّة والماليّة، القائمة على تحميل المجتمع بأسره كلفة مرحلة التصحيح المالي، عبر تصحيح الميزانيّات المصرفيّة على حساب قيمة الليرة اللبنانيّة. الإشكاليّة الأساسيّة هنا تكمن في تقليص الخطّة حجم الخسائر التي ستتحمّلها المصارف من رساميلها، والتي تنحصر بأقل من 19% من إجمالي الخسائر التي تقدّرها الخطّة الحكوميّة، في مقابل تحميل المودعين 55% من هذه الخسائر، وتحميل الأموال العامّة 26% منها. بمعنى آخر، حلّت الرساميل المصرفيّة في المرتبة الثالثة، بعد المودعين والأموال العامّة، من جهة قيمة الخسائر التي ستتحمّل معالجتها.
في الوقت نفسه، تبشّر الخطّة اللبنانيّين باستدامة الأزمة على المدى الطويل، خصوصًا أن التعامل مع الخسائر على هذا النحو سيستغرق أكثر من 15 سنة من عمليّات “التقسيط” للمودعين، ما يعني أن القطاع المصرفي سيستمر بالعمل بصيغة “المصارف الزومبي” المليئة بالخسائر طوال هذه المدّة. ولذلك من غير المرتقب أن تشهد البلاد أي استعادة للتحويلات الخارجيّة خلال هذه المدّة، في ظل عدم الثقة بالقطاع المصرفي وميزانيّاته المليئة بالخسائر. لكل هذه الأسباب، سيكون لبنان –في ظل خطّة حكومة ميقاتي المطروحة- أمام عقد ونصف عقد ضائع، بوجود خطّة غير منصفة أولًا، وغير قادرة على طرح حل جذري للأزمة ثانيًا.