في أكثر من مناسبة، حرص مسؤولون في صندوق النقد الدولي، ومن خلال توصيف الأزمة اللبنانية، على استخدام عبارات «عميقة، معقّدة، تحتاج الى وقت». وفي هذا النوع من التوصيف، إشارات واضحة الى انّ الخروج من الأزمة لن يكون سهلاً أو سريعاً، وبما يعني ايضاً، انّ الاتفاق على برنامج تمويل مع الصندوق، يحتاج الى وقت وإجراءات توازي هذا التوصيف.
لا شيء يعلو على صوت معركة الانتخابات النيابية المقبلة، ولا اهتمامات حقيقية للخروج من الأزمة المالية والاقتصادية قبل ان يندثر غبار هذه المواجهة في ايار، وتتظهّر الخريطة الجديدة لتوزّع القوى السياسية في البرلمان. ومن اللافت في هذا السياق، انّ صندوق النقد نفسه، وفي اطار التعليق الاولي على بدء جولة المفاوضات الرسمية تحدّث باختصار، وعلى شكل عناوين، عن الملفات التي ينبغي التوافق عليها مع السلطات اللبنانية للوصول الى اتفاق لتمويل برنامجٍ للتعافي الاقتصادي.
من الملفت في هذه العناوين، ما يتعلق بضرورة التأكّد من انّ أي اتفاق سيتمّ التوصّل اليه مع صندوق النقد الدولي، سيحظى لاحقاً بموافقة الحكومة المقبلة، للاستمرار في تنفيذه. وينبغي أن نذكّر هنا، انّ الاتفاقات التي يعقدها الصندوق مع الدول تتفاوت مدة تنفيذها، وهي كناية عن برامج محدّدة، عندما ينتهي تنفيذ برنامج، يجري التفاوض مجدداً على برنامج آخر. وفي الحالة اللبنانية، وانطلاقاً من توصيفات الصندوق المُسبقة، يمكن التأكيد أنّ البرنامج الاول لن يكون قصير المدى، وسيتراوح بين 3 و5 سنوات. وبالتالي، وعندما يقول المسؤولون انّهم يريدون التأكّد من توجّهات الحكومة المقبلة، فهذا يعني بوضوح انّهم يريدون انتظار نتائج الانتخابات النيابية لكي ينجزوا أي اتفاق تمويل مع السلطات اللبنانية. وبالتالي، كل الكلام المتفائل الذي نسمعه من مسؤولين رسميين لا يعدو كونه، تمنيات أو أوهاماً أو تضليلاً، لإشاعة أجواء ايجابية، علّها تساعد في تلطيف المناخ السلبي الضاغط على الوضع النقدي.
في كل الأحوال، واذا استندنا الى لائحة الملفات التي ذكرها رئيس الوفد اللبناني المفاوض، سعادة الشامي، والتي قال انّها ضمن برنامج المفاوضات في جولتها الاولى التي بدأت الاثنين الماضي، (24 كانون الثاني الجاري) سنلاحظ عمق التعقيدات القائمة، والتي لا توحي بأنّ الاتفاق على الابواب.
انطلاقاً من هذا الواقع، والذي يدرك حقيقته بلا شك رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، قرّر الرجل تغيير نهج الانتظار على الساخن، واعتماد نهج المماطلة على البارد، وقرّر دعم الليرة مجدداً، وهو دعم سيستمر مبدئياً حتى انتهاء الانتخابات النيابية. وليس واضحاً بعد، الكلفة الإجمالية لهذا الدعم الذي توحي أرقام منصّة «صيرفة» بأنّ معدّله اليومي قد يتراوح بين 15 و20 مليون دولار يومياً، مع احتساب الفرق بين حركة المنصّة قبل القرار وبعده. وبالتالي، ليس مستبعداً ان يصل إجمالي دعم الليرة في الاشهر الاربعة المقبلة الى اكثر من ملياري دولار. وهذه كلفة كبيرة تعني عملياً، وفي حال استمرارها فإنّ رئيس الحكومة يراهن على أمرين:
اولاً- شراء الوقت على طريقة ما كان يجري سابقاً، على امل ان يكون المشهد ما بعد الانتخابات مختلفاً، ويسمح بالانتقال الى الإنقاذ بدلاً من إجراءات تقطيع المرحلة بما تيسّر.
ثانياً- التخلّي عن فكرة حقوق المودعين في المستقبل، والتعاطي مع ما تبقّى من ودائع على أساس انّها ثروة مُصادرة لمصلحة الدولة، يمكن التصرّف بها وفق ما تقتضيه المصلحة العامة، والتي يحدّدها من يتولّى القيادة السياسية في البلاد.
وهناك من يقول، ولِمَ لا، ما دام المواطن وصل الى مرحلة الجوع، والتصرّف بالأموال المودعة في المركزي هو بمثابة «عدالة» اجتماعية، واسترداد حقوقٍ للناس الذين لطالما عانوا من سوء توزيع الثروة، بسبب عقم النظام الضرائبي، وتلاشي الجباية العادلة للضرائب، وتجميع الثروات التي استفاد أصحابها من مناخ الفساد القائم منذ سنوات طويلة في البلد. وعندما تسأل عن حقوق الشرفاء، الذين جمعوا أموالهم بعرق الجبين، والعمل الدؤوب، والاغتراب وبيع الممتلكات وتسييلها لإيداعها في المصارف، وبعض هؤلاء صار بائساً، وكان يعتقد انّه يعمل لتأمين المستقبل والآخرة، فجاءه من يسطو على امواله واحلامه، يأتيك الجواب، بأنّها الحرب، وفي الحروب هناك دائماً ضحايا بريئة تدفع الثمن، وهناك دائماً خسائر جانبية، (collateral damages)، لا بدّ من تحمّلها لكسب الحرب، أو على الأقل، للفوز في صراع البقاء.