كتب جهاد الزين في” النهار”:
إذا شهد العام 2022 حصول انتخابات نيابية فستكون تجربة #17 تشرين أمام حصاد قد يطرح معضلة عميقة هي عدم صلاحية الانتخابات للتغيير.
عكس الرائج إذن. فماذا لو ظهر بشكل قاطع أن تطلعات النخب اللبنانية الجديدة تصطدم بآليات أمنية وسياسية وشعبية ومالية وإقليمية تحول داخلياً دون نقل السلطة لا بشكل سلمي ولا بشكل غير سلمي؟ لا بشكل ديموقراطي ولا بشكل غير ديموقراطي!
هكذا نرى أن الانتخابات توصلنا بل هي أوصَلَتْنا فعلا إلى أسئلة فأجوبة عبثية. استحالة التغيير . واستحالة عدم التغيير..
المعادل الذهني لهذا الانسداد أن استمرار الانهيار هو أفق استحالة التغيير بينما عدم التغيير يعني العجز عن الإنقاذ. وقد أعجبني أمس تعليق في مقدمة أخبار إحدى القنوات التلفزيونية المحلية حين وصف مشروع الموازنة بأنه دعم “قطاع عام متداع على حساب قطاع خاص متهالك”.
يعيش لبنان 3 انهيارات دفعة واحدة. الانهيار المتولّد عن فشل المنظومة الحاكمة. الانهيار المتولّد عن القبضة الإيرانية الأمنية على الوضع اللبناني ، انهيار بعض دول المنطقة التي يتصل بها لبنان جغرافيا وديموغرافيا.
كلها انهيارات تحدث ودفعة واحدة تقريبا. وحتى لو لم تحصل دفعة واحدة فقد أصبحت من حيث النتائج وتلازمها وتداخلها كأنها حصلت دفعة واحدة. تصوروا بنايةً تتعرّض دفعة واحدة إلى انهيار 1- أساسات و2- حريق و3- فيضان سيول غزيرة. انهيار الأساسات هو أزمةالنظام السياسي وفشل المنظومة الحاكمة والحريق هو التوسّع الإيراني والصراع الإقليمي معه وضده، والسيول هي الآتية من المنطقةالمحيطة: انهيار أو فشل بعض الدول (سوريا، العراق).
انهيارات دفعة واحدة وداخل كل انهيار انهيارات: داخل الانهيارِ السياسي الانهيارُ المؤسساتي التربوي والصحي ، وداخل الانهيارِالاقتصادي انهيارُ سعر العملة الوطنية، وانهيار القطاع المصرفي.
….ويُضاف على كل ذلك المشكلة التقليدية وهي الصراع مع إسرائيل وانسداد أفق الحل العادل الفلسطيني.
لنتصوّر أيضا كيف تعتاش كل هذه الأزمات – الانهيارات من بعضها البعض في بلد صغير كلبنان منظومتُه الحاكمة عصيّة على التغيير،ومنظومتُه الأمنية الإيرانية عصيّة على الضبط، ومحيطُه عصيٌ على الاستقرار.
لولا القرار السعودي الذي يؤثر على مستقبل الحريرية السياسية بل على مصيرها، لَما كانت الخارطة السياسية الداخلية اللبنانية تشهد أي تغيير رئيسي يُذكر باستثناء بعض الانسحابات البارزة من الانتخابات. وحتى لو شهدنا تغييرات على المسرح السياسي فقوة النظام السياسي تمنع تغيير الآليات حتى لو طالت بعض الأشخاص.
صحيح أن المنظومة الحاكمة متفاوتة القوة لكن تحالفا رهيبا يقوم بين كل عناصرها، فالاختلاف هو آلية رئيسية في النظام السياسي الطائفي وهي معادلة مجرّبة وعريقة ولو كانت مع المرحلة الميليشياوية التي بدأت عام 1990 قد أخذت أحجاما ضخمة مع الفرز المناطقي السياسي.
نحن في أعوام 1948 و1975 و 1990 و2022 دفعة واحدة. هذا ليس من المخيلة السياسية أو الزمنية بل واقع تَنْرمي فيه أثقال كل هذه السنين على جسد البلد الصغير.
أعرف أنه من السهولة أمام ما وصل إليه هذا التوصيف أن يقول البعض ولماذا لا نضيف عام 1920 على هذه الأعوام باعتباره العام – الأم لتأسيس الكيان اللبناني الحامل لكل هذه الأعباء التي لا تنتهي وكأنها تحصل جميعها دفعة واحدة.
العام 1920 ليس بينها! هذا ليس عناداً سجاليا بل هو تحسّب من معطى آخر قائم هو إحالة جميع القوى التي تستفيد من الانهيار أو دعونا نسمه من “ستاتيكو الانهيار” … تحيل أزمات لبنان على “خطيئة أصلية” هي تأسيسه نفسه ككيان. وهذه الإحالة المشبوهة والمَرَضِيّة ليست قراءة للتاريخ بقدر ما لها وظيفة حماية الحاضر.
صحيح أن هذه الإحالة مارستها أجيالٌ عديدة في الصراع السياسي اللبناني، ومنها جيل 1975، جيلنا، لكن ثبت دائما أن مقولات الصراع السياسي لا تعني قراءة التاريخ ولا تعني كتابته، وهي غير صناعته. فالمقولة “التاريخية” لا يصوغها الصراع السياسي أي النظرة إلى الماضي كأداة في الصراع، وإطلاق توصيفات على حقبات توظيفاً سياسياً في صراع راهن. الماضي حين يخرج من يد السياسيين ويدخل في يد المؤرخين هو الذي سيصنع مقولات الصراع السياسي بعد أن تكون قد أخذت المسافة الزمنية الكافية التي يشتهر الصينيون بأنهم الاكثر دعوةً لها.
كم من كيان في المنطقة سيبقى “طبيعيا” لو أضفنا عام 1920 كنقطة تحوّل – أُمٍّ في كل تاريخ المنطقة؟ هذه المنطقة الحائرة بين “الأخطاء” التاريخية وتلك الجغرافية.