كتب مدير الأبحاث في اتحاد أسواق المال العربية د. فادي قانصو:
إن إقرار الموازنة العامة حاجة ملّحة لإنتظام المالية العامة في لبنان، ويحمل في طيّاته بلا أدنى شك إشارات مؤاتية للأسواق والمستثمرين ويساهم في تعزيز عامل ثقة العالم الخارجي بالاقتصاد الوطني. إلا أنه يجدر الذكر أن الموازنة العامة في المطلق ليست فقط وسيلة لحصر إحتياجات الحكومة وإيراداتها، بل لها وظائف جوهرية أخرى وبالأخص استخدامها كوسيلة لضبط السياسة المالية للبلاد ولتحقيق أهداف الدولة وتنفيذ سياستها الإقتصادية. وتكمن أهمية الموازنة العامة في دورها كأداة رئيسية للتنمية الإقتصادية والإجتماعية، ويشكل إعدادها رافداً أساسياً في الجهد التنموي وفي تلمّس احتياجات الدولة ومواطنيها. في هذا السياق، إننا نرى أن الإقرار الذي نشهد للموازنة العامة بحد ذاته ليس كافٍ إذ يجب أن يترافق مع تقدم مرجو على مسار الاصلاحات الهيكلية التي طال انتظارها من الإصلاحات الإقتصادية إلى المالية والإدارية منها، والتي من شأنها أن تعزز النمو الاقتصادي وتحفّز كل من الإنتاجية والعجلة الاقتصادية وتحدّ بالتالي من الإختلالات القائمة على صعيد القطاع الخارجي والمالية العامة.
في الواقع، كان قد بدأ النقاش بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وحاكم البنك المركزي رياض سلامة ووزير المالية يوسف خليل لتعديل سعر الصرف، والانتهاء رسمياً من العمل بسعر الـ1507.5 ليرات للدولار. الاحتمالات الثلاثة التي كانت موضوعة على الطاولة، بحسب مصادر وزارية، هي أسعار الـ: 3000 و6000 و9000 ليرة للدولار، ولكن لم يتوصّلوا حينها إلى نتيجة. ثم عاد وطُرح وضع سِعرَي صرف: الأول يكون بديلاً عن الـ1507.5 ويُعتمد للمعاملات المصرفية وفي علاقة المصارف بين بعضها البعض، فلا يتمّ القضاء على كامل رساميلها. والثاني سعر الصرف وفق منصة صيرفة، ويُخصّص لكلّ المعاملات التجارية والاقتصادية، كالاستيراد والمبيع داخل لبنان، ما يعني ارتفاع أسعار كلّ الخدمات التي يدفع ثمنها الناس.
من هنا، فإن تعديل سعر الصرف من دون تحديد برنامج الدولة الاقتصادي والاجتماعي، واعتماد سعر صرف آخر لوضع الموازنة خارج أي خطة تعاف مالي اقتصادي اجتماعي، خطوتان قد تساهمان في رفع أسعار السلع والخدمات الأساسية وبالتالي المزيد من إفقار الناس في ظلّ حرمانهم من أي شبكة أمان اجتماعي ومن دون الاهتمام بتأمين الاحتياجات الرئيسية اللازمة لأبسط مقومات المعيشة. ولكن من الناحية الاقتصادية والمالية تعزيز إيرادات الدولة هو مطلب اقتصادي لكسر حلقة طباعة الليرات وتنقيد عجوزات الدولة، وهو ما سيحصل من خلال تعديل سعر صرف الدولار الضريبي، كالدولار الجمركي على سبيل المثال، وإن تعتبر هذه الاجراءات غير محبّذة لا اقتصادياً ولا اجتماعياً في الوقت الراهن، لاسيما في ظل ركود اقتصادي حادّ وتدهور في المستوى المعيشي للبنانيين، ولكن “وجع يوم ولا وجع كل يوم”، إذ أن هكذا إجراءات قد تكون مؤلمة على المدى القصير غير أن ألمها يبقى أفضل بكثير من ألم الاستمرار في دوامة طباعة الأموال وانهيار سعر الصرف على المدى المتوسط والطويل، فعلينا كسر هذه الحلقة بشتى الطرق وإلا فلا مفرّ من الارتطام القاسي الذي قد تمتدّ مفاعليه المؤلمة لسنوات طويلة.
في هذا السياق، ينبغي على الدولة اللبنانية البحث عن خطط دعم بديلة من خلال تفعيل المساعدات الاجتماعية لذوي الدخل المحدود، كرفع بدل النقل وتأمين البطاقة التمويلية وتقديم مساعدات مالية طارئة، بانتظار انقشاع الرؤية أمام مشروع فعّال لتصحيح الأجور يحمل في طيّاته جدوى اجتماعية في الدرجة الأولى، خاصةً وأنه بات بلا أدنى شكّ مطلب اجتماعي محقّ لاسيما وأن الأجور المقيّمة بالليرة اللبنانية باتت قيمتها الشرائية اليوم شبه منعدمة بالنسبة لشريحة واسعة جداً من موظفي القطاع العام والخاص. ولكن أي خطوة غير مدروسة لناحية تصحيح الأجور، ومن دون تأمين التمويل الكافي، كما حصل مع سلسلة الرتب والرواتب، يحمل في طياته ضخ كتلة نقدية بالليرة من شأنها أن يكون لها تداعيات تضخمية ملموسة قد تنعكس ضغوطاً إضافية على أسعار السلع وعلى سعر الصرف تحديداً، وبالتالي فإن مفاعيل تصحيح الأجور المرجوّة قد تذهب حينها في مهبّ الريح. ما يعني بأننا أمام معضلة حقيقية قد تفرض على السلطات الترقب والتريّث لحين إرساء خطة إصلاحية وإطلاق عجلة الاصلاحات الهيكلية المطلوبة لتفعيل العجلة الاقتصادية وحينها لكل حادث حديث.
المصدر : leb economy