وأخيرا تراجع الثنائي الشيعي عن قراره بتعطيل مجلس الوزراء. نفاد عوائد الاستثمار المتوخاة من التعطيل وراء قرار الثنائي الذي يصر على أن أبعاد عودته هي داخلية محلية بحتة، ومن “عندياتنا” بحسب الرئيس نبيه، وأن لا رابط بتاتاً بين مفاوضات فيينا النووية أو الحوارات السعودية الإيرانية، سيما وأن هذا التراجع حصل قبيل استهداف أبوظبي بالصواريخ المجنحة والمسيرات المفخخة.
تراجع الثنائي لنفاد الاستثمار من تعطيل عجلات الدولة ودواليبها. ولم تعد تهمة التعطيل حصرية بثنائي تفاهم مار مخايل وخصوصا التيار الوطني الحر الذي استهلك أكثر من عام من عمر اللبنانيين وهو يفرض على سعد الحريري الشروط التعجيزية قبل إقصائه واعتذاره. وبهذا المعنى فإن الثنائي الشيعي الذي عطّل الدولة ثلاثة أشهر فقط هو أكثر رحمة باللبنانيين من التيار الوطني الحر. قدر اللبنانيون أن يحكموا من ثنائيات تتحكم بمفاصل البلاد وتديرها عبر التعطيل. وباتت ثنائيات التعطيل محل منافسة بين مكوناتها، أيهما أكثر تعطيلاً من الآخر.
التعطيل سلاح القادر على استخدامه. ألم يرفع ميشال عون سيف التعطيل باسم صلاحياته الدستورية وحقه في تسمية الوزراء المسيحيين، والأهم حقه في امتلاك الثلث المعطل؟ وهي الحقوق التي تعطل تشكيل الحكومة لأجل الحصول عليها عاما كاملا.
لكن سيف التعطيل يرتد على أصحابه أيضاً. فالتعطيل حكم عهد أكثر مما حكم عون نفسه. وقد ظنّ عون ووريثه الايديولوجي غير البيولوجي جبران باسيل أن حقوقهم حصرية في استخدام التعطيل. فكانت المفاجأة الصاعقة لهم أن حليفهم الثنائي الشيعي استخدم “حقه” في التعطيل دون حاجته إلى الثلث المعطل، أي دون حاجته إلى أي من حلفائه وخصوصا ذاك الذي أسكنوه في قصر بعبدا، المستهدف أساساً بعبوة التعطيل المزروعة لزوم قبع المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت طارق بيطار.
الطريف في بيان ثنائي الشيعي أو ثنائي التعطيل، تمنينه اللبنانيين أن إفراجه عن اجتماعات مجلس الوزراء هي ضناً بمصلحة المواطنين في ظل الضائقة الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي يمر بها لبنان. لقد أراد ثنائي التعطيل أن يعطي لتراجعه عن تعطيل الحكومة بعدا إنسانوياً مضافاً. تراجع أراد من خلاله “تربيح الناس جميلة” على حد تعبير رئيس الكتائب سامي الجميل.
ما يعنينا من درس التعطيل، أن الثنائي الشيعي وحده من يمتلك خطة أو خارطة طريق للتعامل مع التضاريس اللبنانية بما يؤمن سطوته وسيطرته على الدولة بمفاصلها المعروفة والمجهولة. وقد تمكن ثنائي التعطيل من تطوير وسائل إمساكه بدفة قيادة الدولة بغض النظر عمّن يسكن قصورها أو يجلس في كراسيها الأولى.
الثلث المعطل كان من إنجازات مؤتمر الدوحة بعد غزوة بيروت في 7 أيار المجيد. إنه الثلث الذي استقتل عون وصهره باسيل للحصول عليه حتى يقنعوا أنفسهم وشارعهم أنهم يحكمون فعلياً وليسوا مجرد ماريونات يحركها المخرج من كواليس ما.
حصر وزارة المالية بالثنائي الشيعي بختم الإليزيه وتوقيع ماكرون، أعطى الثنائي حق الموافقة والفيتو على قرارات الدولة كافة. فلا قيمة لمطلق مرسوم أو قرار يتطلب إنفاقاً مالياً دون توقيع وزير المال. وبهذا يكون الثنائي قد استحصل بأسلوب رشيق على ثلث معطل مكون من وزير واحد، كما تكون المبادرة الفرنسية دفنت رغم استمرار البكاء على جنازتها.
الميثاقية الوزارية، التي علّق بموجبها الثنائي مشاركة وزرائه في اجتماعات مجلس الوزراء حتى يصار إلى تنفيذ مطلبهم في قبع المحقق العدلي طارق بيطار. وهو السلاح الذي يستخدمه الثنائي للمرة الأولى في حكومات ما بعد فؤاد السنيورة والحكومة البتراء.
مما تقدم يتضح أن الثنائي الشيعي يستند في خطته وخوارطه الاستراتيجية لتعطيل الدولة إلى ترسانة من الإجراءات التي أخذت بقوة السلاح مفاعيل أقوى من الدستور الذي هو محل تفكير وتحيّن للفرص المناسبة لإعادة النظر به وهذا ما سبق وعبر عنه زعيم حزب الله حسن نصرالله ونظيره غير المختلف ايديلوجيا مع إسرائيل زعيم التيار الوطني الحر جبران باسيل أكثر من مرة.
كل ثنائيات لبنان امتلكت وتمتلك الآليات المناسبة للتعطيل، وقد استخدموا هذه الآليات ضناً بمصالحهم المتدرجة من أجندات خارجية. لهذا دخل البلد بكله وكلكله في مأزق التعطيل، وبات لبنان متجاوزاً لتوصيف الدولة الفاشلة.
لن نغرق في التشاؤم حيال ثنائيات التعطيل والفساد والنيترانيوم، التي بذلت كل إمكانياتها في سبيل التعطيل. أما البناء والنهوض فدونهما خيارات سياسية واقتصادية قاسية، ولبنان لم يعد يحتمل الحلول الترقيعية.
وإذا لم تجترح وصفة سحرية إعجازية تؤمن المساكنة بين وحدة لبنان الداخلية ومتطلبات القرارات الدولية، فيعني أن اللبنانيين منقادون لمشيئة الثنائيات المختلفة وزعيمها وناظمها حزب الله، مع ما يعني ذلك من مخاطر وانزلاقات باهظة الأثمان طائفياً ومذهبياً ومناطقياً وخلط أوراق ومشاريع تتذابح على أرض لبنان. وفي حال الالتزام بالقرارات الدولية والانصياع لروشتات صندوق النقد الدولي كمحاولة لاستعادة بعض الخسائر المادية فهذا لا يعني أننا حتماً سنكون بمأمن من الانزلاقات والفوضى الأمنية الأهلية.
خياران مرّان، لا حلو فيهما. هذا ما أوصلنا إليه ثنائي التعطيل والتمنين ومنظومة الفساد والنيترانيوم والكابتغون.