قبل أن يصدر قرار دعم الليرة من السرايا في ذلك الاجتماع الثلاثي الذي ترأسه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وحضره وزير المال يوسف الخليل وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، كان التوجّه الرسمي يركّز على دور التطبيقات الالكترونية في ارتفاع الدولار. وتمّ تسريب أخبار ومعلومات تفيد بأنّ مصرف لبنان وبالتعاون مع وزارة الاتصالات وأجيرو وبدعم من رئيس الحكومة، يسعى الى إغلاق هذه المنصّات المسؤولة عن انهيار الليرة! طبعاً، البعض صدّق الرواية، والبعض الآخر لم يقنعه هذا الكلام، لأنّ لا التطبيقات ولا الصرّافين هم مسؤولون عن انهيار العملة الوطنية. في النتيجة، وبعد قرار دعم الليرة الذي اتُخذ في 11 كانون الثاني الجاري، تبدّل المشهد دراماتيكياً، خصوصاً بعد عملية جسّ النبض التي قام بها المركزي في اليومين الاولين بعد القرار، اذ تمهّل في ضخ الدولارات، ومن ثم فتح المزراب في اليوم الثالث، حين عوّم السوق بالدولارات، ودفع بالعملة الخضراء الى الهبوط بسرعة.
لكن اللافت في هذا المشهد، انّ «الانهيار» الأسرع للدولار حصل في عطلة الاسبوع، في خلال إغلاق المصارف، وتوقّف البيع عبر منصّة صيرفة، بما يعني انّ حركة بيع كثيفة للدولار حصلت في «الويك أند» من خلال تجار العملة الكبار. ماذا يعني ذلك، وما هي دلائل هذا الأمر؟
في الواقع، تزامن تراجع الدولار مع مُعطيين إثنين: المُعطى الاول يتعلق بمعلومات انتشرت مثل النار في الهشيم، تفيد بأنّ المركزي سيواصل ضخ الدولارات بوتيرة مرتفعة لخفض سعر العملة الخضراء الى ما دون العشرين الف ليرة. والمُعطى الثاني، يتعلق بالقرار المفاجئ الذي أعلنه الثنائي الشيعي بالعودة الى طاولة مجلس الوزراء.
صحيح انّ المعلومات المتعلقة بقرار المركزي ضخ دولارات اضافية لخفض السعر لم تكن مؤكّدة، لكن انتشار مثل هذه الأجواء تساهم، في حال صدّقها المتداولون في تسريع الانخفاض، وتخفّف كلفة العملية على المركزي، وبالتالي، لا يستبعد البعض ان يكون المركزي نفسه من يبثّ هذه الأجواء. لكن السؤال، هل صدّق من يعنيهم الامر هذه المعلومات، وتصرّفوا على أساسها وبدأوا بالتخلّص من دولاراتهم، قبل ان يهبط السعر اكثر؟
في الواقع، هناك أربع شرائح من المضاربين، وهم:
المواطن العادي الذي يملك حفنة من الدولارات، ويخشى ان تخسر من قيمتها الشرائية، ويسارع الى البيع في كل مرة يعتبر فيها انّ العملة الخضراء تتجّه الى الهبوط.
المواطن غير المحترف، لكنه يملك مبلغاً من المال، ويعتبر انّ السوق المضطرب يشكّل له فرصة للبيع والشراء وتحقيق ارباح.
المضارب المحترف، والذي ينضوي في العادة ضمن «كارتيل» مع مضاربين كبار ومحترفين. هؤلاء ينسّقون قراراتهم، في البيع والشراء، ويساهمون احياناً في زيادة اندفاعة الدولار هبوطاً أو صعوداً، ولكن ظرفياً ولوقتٍ مُحدّد.
المضارب السياسي، وهو مستثمر سياسي يدفع الاموال في العادة لتحقيق مكاسب سياسية، بهدف خلق مناخات تساعده في تحقيق طموحاته السياسية.
هذه الشرائح الاربع ساهمت في خفض الدولار بسرعة غير متوقعة في خلال 3 أيام. المضارب السياسي ضخ الدولارات، والمضارب هذه المرة هو ميقاتي الذي استخدم اموال المركزي وضخّ اكثر من 41 مليون دولار في يوم واحد (الجمعة في 14 الجاري). كذلك فعل المواطن جزئياً، بهدف حماية امواله او تحقيق ارباح. مع الإشارة الى انّ المواطن غالباً ما يخرج خاسراً في النتيجة، بسبب عدم قدرته على قراءة قرارات المضاربين الكبار. اما شريحة المضاربين المحترفين، فلم تتوان عن الدخول في «اللعبة»، ورمت بعض الدولارات في السوق. طبعاً، هؤلاء لم يستندوا في قرارهم الى المعطيات الظاهرية، بل استغلوا هذه المعطيات، وقرأوا السلوك العام، وقرّروا الإفادة من الظرف كما حصل تماماً ابّان تشكيل الحكومة الميقاتية، حين هبط الدولار الى 14 الف ليرة، بدعم من المضاربين، الذين حققوا لاحقاً أرباحاً خيالية.
هل يعني ذلك انّ السيناريو نفسه سيتكرّر اليوم؟ وما هو القعر الذي سيبلغه الدولار؟
ما هو أكيد انّ الدولار لم يبلغ القعر بعد، والمركزي سيستفيد بدوره من المناخ لتخفيف كلفة خفض العملة الخضراء. لكن من رابع المستحيلات ان يستقر الدولار في القعر الذي سيبلغه في الايام القليلة المقبلة، وسيعاود الارتفاع، وسيكون الرهان الأساسي على الرقم الذي سيقف عنده، والذي قد يكون قريباً من 25 الف ليرة، وفق التقديرات الحالية، ولو انّها غير دقيقة، لكنها منطقية من حيث الكلفة والمناخ والحاجة. لكن السؤال الآخر المطروح، ماذا سيكون موقف صندوق النقد في المفاوضات، حيال عودة مشروع دعم الليرة، في الوقت الذي تفاوض فيه الحكومة على خطة إنقاذ ينبغي ان يموّلها الصندوق؟