ما زالت التحركات الشعبية في لبنان احتجاجاً على تردّي الأوضاع الاقتصادية وغياب الحلول السياسية محدودة، ومساحتها تقتصر على بعض مناطق الشمال وصيدا (الجنوب) والبقاع. ولم يعد السؤال لماذا تحرّك الناس، وإنما لماذا آثر المواطنون الصمت ولم ينتقلوا إلى مرحلة التعبير العالي الصوت عن معاناتهم؟ فالبلاد تعيش انهياراً مالياً قياسياً، وانهياراً في القطاعات العامة والخدمية. ومع تخييم شبح الجوع، يحار الفكر في تحديد العوامل التي تجعل شعباً بأكمله ساكناً في وجه السلطة، في حين يتذمر بصورة غير مسبوقة، لا سيما في عالم التواصل الاجتماعي. وربما يعيش اللبناني مرحلة “الثورة الافتراضية” التي تسبق مرحلة الانتخابات النيابية.
في مواجهة ظاهرة الانكفاء عن التحرك، تتداخل التفسيرات، منها ما يشير إلى الطائفية التي توجه سلوك معظم اللبنانيين، ومنها ما يتحدّث عن دور الحوالات بالعملة الأجنبية في “تخدير” اللبنانيين وسط انهيار غير مسبوق. وهناك من يركز على ضعف التنظيم وعدم وجود رؤية موحدة لمستقبل لبنان لدى المجموعات الاعتراضية.
التحركات في أولها
بين هذا وذاك، بدأت التحركات في طرابلس التي عُرفت بعروس الثورة، وكذلك في بعض مناطق عكار الواقعة على مقربة من سوريا، إلى جانب عمليات الكر والفر في بعض مناطق جبل لبنان، وصولاً إلى صيدا. وفي حين يُنظر إلى تحرك الاتحاد العمالي العام، الخميس 13 يناير (كانون الثاني)، باستهجان لكونه واقعاً تحت سيطرة أحزاب السلطة، دعت “حركة مواطنون ومواطنات في دولة” إلى التحرك والضغط قبل الانتخابات.
ويعتقد الناشط السياسي بسام الهاشم أن هناك أسباباً عديدة لتأخر التحركات الشعبية في ظل الانهيار المالي، ويعزوها إلى “الهجرة الكثيفة التي طاولت عنصر الشباب الذي كان يشكل عصب الثورة”، إلى جانب “تأثيرات أخرى، كجائحة كورونا، وقيام بعض قوى المنظومة الفاسدة بوضع يده على جوانب من الانتفاضة بلباس تنكري، وتحوير التحركات بفعل أيادٍ مُندسّة”، ونقلها من تحركات سلمية تستهدف التغيير إلى مواجهات عنفية”. ويقول الهاشم، “هذه الأمور تردع المسالمين عن الاستمرار في النزول إلى الشارع”. ويلفت إلى “فشل قوى الثورة في توحيد صفوفها وإنتاج قيادة موحدة”.
ويقر الهاشم بأن هناك “تعثراً في مسار الثورة، إلا أن هناك نية بالاستمرار”، وعلى الرغم من ذلك يأمل أن “تتوجه إلى تشكيل إطار نضالي أبعد من الاستحقاق الانتخابي، وصولاً إلى التغيير الجذري فكرياً وواقعياً”. ويرى أن “العامل الأكثر تأثيراً هو استمرار قوى الفساد بالسيطرة على البلد، والاستثمار الطائفي”.
بيروت غائبة عن خريطة التحركات
في استعراض لخريطة التحركات، تغيب بيروت عن التحركات المطلبية الحاشدة. وتقدم الناشطة يسرا التنير مومنة قراءة تحليلية لتدرج الموقف لدى سكان بيروت، “مع بدء انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، كنا أمام موجة كبيرة عمّت لبنان كله، وتحرّكت المناطق كلّها، بما فيها بيروت، إلا أن أعمال التحطيم والتكسير التي قام بها مندسون وجّهت رسالة سلبية واستفزّت أهالي بيروت، خصوصاً بعد تحطيم المصارف والهجوم على أحد الصروح الأكاديمية”. إلى ذلك، تضيف مومنة، أن “الثورة لم تطرح بديلاً، وتراخت التحركات بعد إسقاط رئيس الحكومة سعد الحريري”، بالإضافة إلى “الهلع الذي سببته كورونا لدى المواطنين الخائفين على صحتهم”، ناهيك بـ”حالة الطفر بسبب الوضع الاقتصادي التي طاولت اللبنانيين كافة في المناطق كلها”.
وتلفت مومنة إلى سمة في “شخصية البيروتي، فهو اعتاد على اتخاذ موقع ردة الفعل، وليس المبادر في أي تحرك، وهو ينتظر مآلات الأمور من أجل تحديد موقعه”.
السقف المعيشي للمطالب
يتضح من ذلك أن سقف التحركات والمطالب قد تبدّل في ما بين مرحلة الانطلاق في 17 أكتوبر 2019 ومرحلة الانهيار المالي المتسارع التي تقضي على آخر مقومات الحياة بالنسبة إلى اللبنانيين راهناً. ويؤكد المحامي علي عباس، من “المرصد الشعبي لمحاربة الفساد”، أن “سقف المطالب لدى اللبنانيين أصبح معيشياً، ولم يعد يقتصر على المطلب السياسي كما كان في البداية”.
ويتطرق إلى “تأثير القمع والملاحقات وحالة اليأس والإحباط التي تسللت إلى نفوس المواطنين، بسبب عمل أحزاب السلطة على بث الفتن والعصبيات من أجل إعادة التماسك إلى شوارعها”، وقد “وصل الأمر ببعض الفاعلين في الانتفاضة إلى الهجرة من لبنان بسبب فقدان الأمل بالتغيير”.
يتطلع عباس إلى “استعادة اللحظة الثورية” في 17 أكتوبر، و”عودة الناس إلى الشارع”، متطرقاً إلى “أهمية الاستمرار في بث الوعي في الأوساط العامة، وتأكيد أنه لا توجد استحالة في التغيير”. وفي هذا الإطار، يأتي التحرك أمام مصرف لبنان لشد عصب الشارع المنتفض من أجل ترجمة الغضب الشعبي ضد السلطة الحاكمة في الشارع بحركة تصاعدية وعدم اقتصاره على مواقف التواصل الاجتماعي.
ويتحدّث عباس عن “انتفاضة من نوع آخر، ساحتها القضاء”، مشيراً إلى “تقديم 50 إخباراً وشكوى موثقة في ملفات فساد ومستندات ثابتة”. ويلفت إلى “بدء التحقيقات في بعضها، فيما ينتظر إخراج ملفات أخرى من الأدراج”. ويجزم بأن “هناك ضرورة لسرعة البت بالملفات، ولكن الأهم أن نكون أمام نتائج صريحة، وعدم الركون إلى الحماية التي تؤمنها المرجعيات السياسية لبعض المسؤولين”.
وجوب التنظيم
ويكشف الناشط أحمد تركماني عن لقاءات تُعقد “من أجل تنظيم التحركات الميدانية على امتداد الأراضي اللبنانية”. ويتحدث عن “تجاوز التحركات العفوية إلى عمل موحد ومنظم لتجنب الفوضى والسعي لنزول الناس إلى الأرض بقوة وبالآلاف، من أجل إعادة ثقة الناس بالانتفاضة والتحركات في الشارع”.
ويرفض التركماني تحديد موعد للتحركات، أو أن يقتصر الجدول الاحتجاجي على اعتصام ليوم واحد كما هي الحال في إضراب السائقين، الخميس 13 يناير، لافتاً إلى أن “الحراك لا يهدف إلى المشاركة في الانتخابات، وإنما إسقاط السلطة في الشارع”.
في مقابل الحديث عن توحيد التحركات، يبرز الحديث في بعض الأوساط عن “توحيد الرؤى والشعارات الواضحة”. ويدعو الناشط وليد ريما، من “حراس المنية”، إلى “الخروج من نطاق المطالبات الضيقة التي تقتصر على المطالبة بالحقوق الأساسية للمواطن من مأكل ومشرب، إلى الأفق الأوسع، إذ يصبح المطلب قيام دولة قوية على أسس العدالة والشفافية ومكافحة الفساد، وتحرير الدولة من سلطة الطبقة السياسية التي احتلت المؤسسات العامة والقضاء”. ويأسف لسيطرة “التحركات العشوائية بسبب غياب خريطة الطريق والأهداف”.
الاعتصام أمام مؤسسات تحويل الأموال
إلى جانب التحركات الكلاسيكية، كان لافتاً توجه مجموعة من الأشخاص إلى الاعتصام أمام مؤسسات تحويل الأموال في طرابلس. ويعبر الناشط محمد نعمة عن استغرابه من ظاهرة “الناس النائمة”، و”إقفال مجموعات الشوارع في المدن، الأمر الذي أصبح يرتد سلباً على الانتفاضة، لذلك أقترح التوجه إلى التحرك أمام مؤسسات تحويل الأموال لأن الحوالات من الخارج هي سبب عدم استيقاظ الشعب وعدم الشعور بأثر التضخم المالي”. ويقول نعمة، “ناقشت بعض الناس بأن الحوالة لا تغني عن تأثير ارتفاع صرف الدولار مقابل العملة الوطنية، إلا أننا تراجعنا عن خطوتنا بعد تعرضنا للانتقاد من المواطنين”، منبهاً إلى خطورة فقدان السلع الأساسية في القريب العاجل، وأن “نترحم على هذه الأيام السيئة”. ويقول نعمة إن “التغيير لن يكون من دون مواجهة السلطة بقوة”.