ما تسبّبه الأزمة من فوضى يبقى أقل كارثية من المعالجات الموضعية، التي “يجترحها” المسؤولون على طريقة “أتى ليكحّلها، فأعماها”. إجراءات لم تعجز عن “تقطيب” المشكلة فحسب، إنما أضافت على “جرحها” النازف “ملح” الاستنسابية ومخالفة القوانين. فكانت النتيجة تلوّي الاقتصاد منذ عامين وثلاثة أشهر من “أوجاع” ساهمت باهتراء بنية مؤسساته وذوّبت قدرة مواطنيه الشرائية.
أصول تسجيل العمليات التجارية وعناصر الأصول والخصوم في السجلات المحاسبية على سعر السوق واحد من هذه الاجراءات. ففي نهاية العام الأول على صدوره، ونتيجة الانهيار في إيرادات الدولة، عمدت المالية إلى إصدار القرار. وبالفعل بيّن ملخص الوضع المالي الذي تُصدره وزارة المالية، ارتفاع عائدات الضريبة على القيمة المضافة من 850 مليار ليرة لغاية حزيران 2020، إلى حدود ألف و862 ملياراً للفترة نفسها من العام الحالي. أي بزيادة تقدّر نسبتها بـ 118.89 في المئة.
هذا التحسن الملحوظ الذي يعود بجزء كبير منه إلى المقارنة مع العام 2020 الذي شهد تراجعاً تجارياً هائلاً بسبب الاغلاق العام معظم أيام السنة لمكافحة الجائحة، ما هو إلا انعكاس للزيادات التي أوجبها هذا القرار أضعافاً مضاعفة من جيوب المستهلكين، وصلت إلى حدود العشرة أضعاف في ظل تراجع القدرة الشرائية لديهم. ما يعني أن هذه الزيادة تبقى ضئيلة، وإلا لارتفعت عائدات الضريبة على القيمة المضافة إلى 8500 مليار ليرة بدل أن تكون ألفاً و862 ملياراً، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على المؤسسات والمستهلكين، ومن جهة أخرى، لم يحقق الغاية منه. إذ إنه بقي العائد أقل من الرقم المحقق في العام 2018 للفترة نفسها، والذي بلغ ألفاً و 872 مليار ليرة. ما يعني أنه وعلى الرغم من احتساب الضريبة على القيمة المضافة على سعر صرف لم يقل في المتوسط عن 16 ألف ليرة في العام 2021، بقيت العائدات أقل من الايرادات المحققة في العام 2018 على سعر صرف 1500 ليرة. وهو إن دل على شيء، فعلى حجم التراجع في النشاط التجاري والامكانية المرتفعة من ازدياد التهرب الضريبي.
خبير المحاسبة المجاز والعضو في “جمعية مدراء مؤهلون لمكافحة الفساد” الاستاذ جوزف متّى يلفت إلى أن “هذا القرار خالف المراسيم، بدءاً من قانون النقد والتسليف، مروراً بقانون الضريبة على القيمة المضافة، وصولاً إلى المعايير الدولية الملتزمة الدولة تطبيقها منذ العام 2001. وقد تم تقديم الطعن أمام مجلس شورى الدولة في آذار العام 2020 لوقف تنفيذه إلى حين صدور الحكم. إلا أنه لغاية اللحظة، أي بعد مرور تسعة أشهر، لم يصدر أي قرار عن الشورى واستمر تطبيق القرار، بمخالفة موصوفة لمعايير المحاسبة الدولية والقوانين الضريبية اللبنانية، التي تلزم الإدارة الضريبية بتحديد سعر الصرف للضرائب بحسب السعر الرسمي، الذي ما زال لغاية الآن 1515.
من الناحية العملية، فان هذه القرار صدر بـ11 مادة، كل واحدة منها تحمل في مندرجاتها إشكاليات تطبيقية عديدة وصعوبات لوجستية كبيرة. والأخطر أنه “أعطى عناوين، لكن لم يتجرأ أحد من المراجع الرسمية على إصدار الآليات التطبيقية له”، بحسب الاستاذ متى، و”كل ما تم وضعه على صعيد التطبيق كان مساهمات موضعية بسيطة حول كيفية التنفيذ على أرض الواقع، من دون أن يكون هناك أي قرار تطبيقي واضح من الجهة الرسمية”. القرار الذي أجاز للمؤسسات احتساب الضريبة على القيمة المضافة بـ (11%) على سعر صرف السوق الموازية، لم يحدد مرجعية صالحة وواضحة لتحديد السعر. ذلك مع العلم أنه لغاية الساعة ما زال يعتبر سعر صرف الدولار في السوق الموازية من قبل السلطة غير حقيقي، وهو برأيها يتبع منصات وهمية تحدد السعر لمصالح المضاربين وليس على أساس العرض والطلب. فعلى أي أساس ستحتسب المؤسسات سعر الصرف عند تقاضيها TVA وكيف ستسجله عند تنفيذ موازناتها؟ يجيب الاستاذ متى بأن “لا حيثيات ولا آليات القرار استطاعت أن تضعه في الاتجاه الصحيح طيلة العام الحالي. ولذا وقعت المؤسسات في إرباك كبير في التطبيق. فعلى صعيد ضريبة الدخل مثلاً، نرى أن هذا القرار أدى إلى تحقيق المؤسسات أرباحاً وهمية ستؤدي بنتيجتها إلى ضرائب على أرباح غير محققة. حيث سيترتب على المؤسسات التي طبقت هذا القرار (من دون أن نعرف الطريقة التي اعتمدتها) ضرائب على أرباح غير محققة. ولا سيما إذا ما قابلناها مع رأسمالها. حيث تراجعت قيمة الرأسمال التشغيلي بالمقارنة مع السنوات السابقة. الامر الذي أدى إلى انهيار كبير في ميزانياتها.
يلاحظ خبراء المحاسبة والمدققون تعمّد المؤسسات التأني في إقفال حسابات العام 2021. ذلك أن هناك الكثير من الشركات اعتمدت على الفوترة بحسب سعر صرف السوق الفعلي. كما وهناك شركات احتسبت سعر صرف الدولار على 3900 ليرة في فواتيرها منتظرة التحصيل لمعالجة كيفية احتساب الضريبة على القيمة المضافة. وبعد إعلان قرار مصرف لبنان في 12 كانون الأول الحالي رفع سقف السحوبات من منصة صيرفة إلى 8000 ليرة، بدلاً من 3900 ليرة زادت التعقيدات في عملية تسكير الحسابات على سعر 8000 ليرة. القرار الذي كان يهدف بأحد أوجهه إلى الهروب من التضخم غرق في “حفرة” التضخم. الامر الذي دفع بالشركات، بحسب الاستاذ متى، إلى أن “تعيد النظر بالوقائع المجمعة بين أيديها وتدارس إمكانيات الاستمرار في انشطتها وإلى أين من الممكن أن تصل. من هنا لم تقفل الكثير من الشركات أبوابها نهائياً إنما بطّأت عمليات مشترياتها ومبيعاتها بانتظار حل ما يعيدها إلى سكة العمل السليم.
على أرض الواقع ارتفعت الضريبة على القيمة المضافة من 1500 ليرة إلى 3900 و8000، وحتى أن الكثير من المؤسسات احتسبتها على سعر الصرف الفعلي. ولنفترض أن هناك سلعة بقيمة 100 دولار، فان الضريبة على القيمة المضافة عليها ممكن أن تبدأ بـ 42900 ليرة وقد تصل إلى 308000 ليرة إذا ما احتسبت الضريبة على سعر صرف 28 ألف ليرة للدولار. هذه الاضافة على السلع تحملها المستهلك النهائي وأدت إلى المزيد من اضعاف قدرته الشرائية”، بحسب الاستاذ متى. “الامر الذي انعكس مزيداً من التضخم ومن ارتفاع الأسعار على المواطنين وتراجعاً في الرأسمال التشغيلي عند التجار والمؤسسات.
هذه الوقائع ستخلق إشكالية كبيرة جداً بين الدائرة الضريبية والمكلفين، حيث أن احتساب الضريبة وفق بعض الطرق تخفض نسبتها إلى أقل من 11 في المئة كما هو متوجب. ومن جهة أخرى ستواجه الشركات المحلية المرتبطة بالشركات المتعددة الجنسيات في الخارج، مشكلة كبيرة في اعداد الميزانيات السنوية والتدقيق بها واصدار الميزانيات المجمعة وفقاً للمعايير الدولية والعالمية.