“الدفع بالدولار الأميركي النقدي فقط”… عبارة بدأت تتسع رقعتها في لبنان لتلغي تدريجياً التعامل بعملة البلاد وتقضي على ما تبقى من قيمتها بما فيها “الوطنية” الأمر الذي يدعو اللبنانيين إلى طرح السؤال الأوحد “هل نحن نعيش في لبنان أم في الولايات المتحدة؟”.
ومع تهاوي الليرة اللبنانية تخلّى المواطنون عن عملتهم وتحوّل التعامل بالدولار النقدي حصراً إلى ظاهرة بدأت خجولة على مستوى بعض الخدمات والتعاملات والأتعاب قبل أن تمتد وتنتشر في العديد من القطاعات بما فيها الأساسية منها صحية وعلى مستوى شركات التأمين رغم أن القانون اللبناني يحظر رفض التعامل بالليرة ويفرض عقوبات على هذه الممارسات.
تدخل ريما إلى عيادة طبيب الأسنان في بيروت بعد تأجيل مستمر لموعدها رغم آلامها وعدم مقدرتها على تناول الطعام منتظرة آخر الشهر لتقبض مرتبها وتدفع كلفة العلاج لكن الصدمة غير المتوقعة كانت بطلب 50 دولارا أميركيا نقدا “ثمن تلبيس الضرس” على أن يأخذ باقي تكاليف العملية بالليرة وتبلغ حوالي مليون ليرة لبنانية.
لم تستوعب ريما بداية اشتراط الطبيب الدفع النقدي بالدولار وتمنت عليه دفعها بالليرة وفق سعر السوق السوداء ولكنه رفض بذريعة أنه يشتري المستلزمات والأدوات بالدولار تقدا وسعر السوق يتغير كل ساعة وأمام الوجع اضطرت ريما على الموافقة وعمدت في ما بعد إلى شراء 50 دولارا من صراف غير شرعي بـ25600 ليرة لتسدد ما عليها.
“حجّة” الطبيب هي نفسها باتت تتردّد على لسان العاملين في غالبية القطاعات حيث تحول الدولار لديها إلى عملة التعامل الوحيدة ويطغى ذلك أولاً في السوق العقاري، حيث إن أسعار الشقق باتت بأكثريتها تسعّر بالدولار وتباع بالعملة الخضراء نقداً وحصراً مع رفض الدفع بالليرة، وفق سعر السوق أو حتى لقاء الشيك المصرفي الذي كان يُقبَل به مع بداية الأزمة أي قبل حوالي العامين.
يقول روني وهو شاب في ربيع العمر يخطط للزواج إن شراء منزل في لبنان بات بمثابة حلم ولو كان كناية عن غرفة واحدة، فالدفع يجب أن يكون بالدولار النقدي فقط، التقسيط ممنوع، القروض متوقفة، وراتبي بالليرة ولا يتجاوز الأربعة ملايين، حتى الايجار لم نعد نقوى عليه وهو هدر للمال على سكن ليس ملكك وستعيده في النهاية إلى صاحبه.
وفي جولة على أسعار بعض الشقق في لبنان فهي تبدأ من 50 ألف دولار وترتفع تبعاً للمساحة وموقعها والمنطقة السكنية وعند البحث في موقع مخصص لبيع وشراء الشقق والتواصل مع 10 اشخاص يعرضون شققهم للبيع فأتى الجواب الموحد منهم “لا نقبل إلا بالدولار النقدي”.
ويقول صاحب شقة في منطقة جونيه شمال بيروت لـ”العربي الجديد”: “كيف يمكن أن نبيع شقة بالليرة ولو على سعر السوق اليومي والكل يعلم أن العملة فقدت قيمتها والتوقعات كلها تشير إلى استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار لكننا في المقابل خفّضنا السعر فالشقة التي كانت تباع بمائتي ألف دولار أميركي مثلاً في الماضي باتت اليوم تعرض بمائة ألف دولار نقداً وأصبح هناك أسعار شقق بالدولار لم تكن موجودة في الماضي منها وصل إلى 40 و50 ألف دولار وحتى أقل خصوصاً إذا كان هناك اشخاص مضطرين للبيع بداعي الحاجة للدولار أو السفر وأصحاب المال استفادوا من هذا الوضع أيضاً”.
ولا يقتصر اشتراط الدفع بالدولار على شراء الشقق، بل طاول أيضاً أكثرية المنتجعات السياحية والشاليهات سواء لاستئجارها أو شرائها وقد ظهر ذلك بشكل كبير هذا الصيف ويظهر اليوم مع بدء فصل الشتاء وقد عمدت منتجعات في المناطق الجبلية الثلجية إلى نشر أسعارها بالدولار خصوصاً أنها تعوّل على اللبنانيين الوافدين من الخارج لتمضية عطلة الأعياد في لبنان وكذلك على بعض السياح العرب الذين يقصدون لبنان في هذه الفترة للاستفادة من طقسه ومناخه وطبيعته الخلابة وثلوجه وممارسة هواية التزلج.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفنادق التي يعمد بعضها إلى طلب الدولار النقدي لقاء الغرفة مع العلم أن وزارة السياحة اتاحت للفنادق التسعير بالدولار واشتراط قبضه نقداً لكن فقط من غير اللبنانيين وبالتالي منعت فرض تسعيرة بالدولار على اللبناني سواء كان مقيماً أو مغترباً.
في السياق السياحي أيضاً، أصبحت أسعار تذاكر السفر في لبنان تسعّر كلها بالدولار فقط وأصبح على كل راغب في تمضية رحلة “خارجية” شراء الدولار من الصرافين غير الشرعيين.
بالانتقال إلى السيارات، التعامل أصبح أيضاً بالدولار بيعاً وشراءً والدفع بالليرة اللبنانية أو الشيك المصرفي “ممنوع”.
ويقول صاحب معرض في بيروت لـ”العربي الجديد”: “لا يمكن قبول الليرة اللبنانية خصوصاً في ظل الفوضى الحاصلة ونحن نحتاج إلى الدولار لشراء السيارات ومن ثم بيعها”، لافتاً في المقابل إلى أن الأسعار انخفضت بعض الشيء مع اعتماد تسعيرة الدولار فمن يملك المال والدولار استفاد من ذلك واشترى “بالرخيص”.
وفي عالم السيارات نفسه، بدأ عدد كبير من الميكانيكيين يطلبون من زبائنهم الدفع بالدولار فقط لقاء قطع الغيار فيما يطلبون أجرة يدهم بالليرة اللبنانية مع العلم أنها ارتفعت أيضاً وباتت لا تقلّ عن 200 ألف ليرة.
في القانون، يقول المحامي رفيق غريزي، لـ”العربي الجديد”: “المواد القانونية واضحة جداً وتنص على أن الوحدة النقدية للجمهورية اللبنانية هي الليرة كما تفرض عقوبات تصل إلى الحبس على من يمتنع عن قبول العملة المحلية وهذا واضح في قانون النقد والتسليف ولا لبس فيه”.
لكن في المقابل، لا يمكن الانفصال عن الواقع يقول غريزي إن التبدل الاقتصادي وانعدام الاستقرار والتقلب السريع في سعر صرف الدولار والحديث المستمر حتى على لسان المسؤولين السياسيين عن إمكان تجاوز سعر الصرف عتبة الثلاثين ألف ليرة وأن الارتفاع لا سقف له كلها عوامل أفقدت المواطنين الثقة بعملتهم وتدفعهم حكماً إلى التخلّي عنها وعدم إبقائها بحوزتهم لفترة طويلة باعتبار أن قيمتها تنحدر أكثر يوماً بعد يوم.
ويضيف غريزي: “الناس تريد أن تحمي تعبها وعرقها فهي خسرت كثيراً واستنزفت وباتت عاجزة عن الصمود بوجه الغلاء الفاحش والمستشري وخصوصاً بعد رفع الدعم الذي طرق باب المحروقات والأدوية والحاجات الأساسية للمواطن وهو ما حتم عليها أن تطلب اتعابها بالدولار الأميركي النقدي”.
من جهة ثانية، يشير غريزي إلى أن “قطاعات كثيرة يقوم عملها على الاستيراد من الخارج أو يحتّم التعامل بالدولار”.
إلى جانب ذلك، يلجأ الكثير من اللبنانيين إلى تحويل أموالهم من الليرة اللبنانية إلى الدولار عبر شرائه من الصرافين غير الشرعيين لحاجتهم أولاً إلى الدولار وكذلك لأن ضمانتها أقوى من العملة الوطنية خصوصاً في ظل ما تظهره المؤشرات بأن الدولار يتجه إلى مزيد من “التحليق”.
هذه الوقائع لها حتماً تداعيات كبيرة على الاقتصاد في لبنان، إذ يشير الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان في اتصال مع “العربي الجديد” إلى أن “التعامل بالدولار يؤدي إلى مزيد من التضخم حيث إن 85 في المائة من الشعب اللبناني دخله بالليرة وعندها يضطر لشراء الدولار للحصول على الخدمة أو السلعة”.
من تداعياته أيضاً يقول أبو سليمان: “ارتفاع سعر صرف الدولار مع ازدياد الطلب عليه وهذا يقوّض الاستهلاك لأن ليس كل المستهلكين أو المواطنين سيعمدون إلى شراء منتجات باتت تعتبر من الكماليات ما من شأنه أيضاً أن يبطئ الحركة الاقتصادية ويدخلنا في كساد اقتصادي”.
ويعتبر أبو سليمان أن “ما يحصل يفسّر فقدان الثقة بالعملة الوطنية والتجار أو الناس عامةً لا يريدون أن يتحمّلوا تقلّبات الأسواق أو تكبّد خسائر في حال قدّموا الخدمة أو باعوا السلعة لقاء الليرة اللبنانية خصوصاً إذا ما أرادوا استبدالها بعملة اجنبية لغاية الاستيراد”.
المصدر : ريتا الجمال – العربي الجديد