مع بدء تحرّك سعر صرف الدولار مقابل الليرة، معلناً بذلك انتهاء عهد تثبيت سعر الصرف، رفض حاكم مصرف لبنان رياض سلامة التدخّل لضبط السعر، معتبراً أن الدولار سلعة كأي سلعة أخرى، يجري تحديد سعرها وفقاً لحركة العرض والطلب في السوق.
انطلاقاً من هذه القاعدة، شرَّع سلامة السوق السوداء، وانفَلَتَ سعر الصرف على وقع تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والنقدية، وبات الصرّافون ملوك السوق السوداء، إذ يحدّدون سعر الدولار على هواهم، ودائماً الحجّة هي العرض والطلب. واليوم يرفض الصرّافون الإلتزام بسعر منصة “صيرفة”، معتبرين أن العرض والطلب هو المعادلة التي تحدد سعر الدولار.
إبتداع المنصة
لم يكن سلامة قادراً على الصمود خارج لعبة الدولار، فهو حاكم المصرف المركزي، ومن واجبه التدخل من باب حماية الليرة المؤتمَن عليها. فأصدر التعميم الأساسي رقم 13236، الذي أطلق خلاله منصة “صيرفة” المخصصة للصرافين، على أن يباشَر العمل وفقها اعتباراً من تاريخ 23/6/2020. وألزَمَ القرار الصرافين بـ”تحديد وإدخال، السعر اليومي المعتمد من قبلها للتداول بالدولار، وذلك قبل الساعة التاسعة صباحاً من كل يوم عمل ويمكن تعديل هذا السعر خلال النهار ويعتمد سعر موحد لدى مركز وفروع مؤسسة الصرافة كافة”. وفي المادة الثانية، على مؤسسات الصرافة “التقيد بأي حد أقصى لسعر بيع الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية قد يحدده مصرف لبنان”.
ويُلزِم قرار سلامة الصرافين بإدخال كل عمليات شراء وبيع الدولار إلى المنصة، بالإضافة إلى “تاريخ وقيمة العملية، تعريف العميل وفئته (شخص طبيعي، شخص معنوي، مصرف، مؤسسة صرافة) واسمه ورقم هاتفه وصورة عن مستند مثبت لهويته أو نسخة عن مستندات التسجيل في السجل التجاري إذا كان شخصاً معنوياً”.
وعدّل الحاكم قراره بتاريخ 10/5/2021، سامحاً لشركات الصرافة “بشراء وبيع العملات الأجنبية وفقاً للعرض والطلب في السوق، شرط أن يتم إعتماد هوامش بين سعر المبيع وسعر الشراء، وأن لا تتجاوز في مطلق الأحوال كحد أقصى، نسبة 1 بالمئة من سعر الشراء”.
رفض الصرافين
منذ إطلاقها، بقي الصرافون يعتمدون سعر السوق السوداء، ولم يلتزموا بتسجيل عمليات البيع والشراء والمعلومات المطلوبة، حتى أن بعضاً منهم تورّط في الصرافة غير الشرعية. ووصل الصرافون إلى نقطة اللاعودة من خلال المساهمة في رفض التداول بالطبعة القديمة من فئة الـ100 دولار، إلى جانب المصارف.
حاول الصرافون التزام الصمت قدر الإمكان، غير أنّهم أعلنوا يوم الأحد 19 كانون الأول، القطيعة مع منصة صيرفة والتزام السوق السوداء، من دون النص على ذلك حرفياً. لكن بيان نقابة الصرافين، نصَّ على أن “منصة صيرفة لا تتضمّن تسعيراً للعملات الأجنبية بالنسبة لليرة اللبنانية وبالتالي، لا يمكن للصّراف الإعتماد على أي سعر للمنصّة المذكورة”. واستندت النقابة في رفضها إلى ما ورد في قرار سلامة رقم 13326، والذي ينص على أن “تقوم شركات الصرافة المسجلة لدى مصرف لبنان وبعض شركات تحويل الأموال بشراء وبيع العملات الأجنبية وفقاً للعرض والطلب في السوق”.
سعر العرض والطلب
كان من المفترض بعمليات البيع والشراء المسجلة على المنصة، الخروج بسعر وسطي يكون هو سعر السوق فعلياً. لكن السوق السوداء كانت أقوى، والصرافون لم يلتزموا منذ اللحظة الأولى بما ورد في تعميم الحاكم، فلم يسجّلوا بيانات البيع والشراء، بل التزموا بأسعار السوق السوداء التي غذّاها انتشار التطبيقات الإلكترونية، التي أصبحت هي المنصة الفعلية لتحديد سعر الدولار.
وعليه، لم يعد هناك عرض وطلب ولا مفاضلة يُحدد السعر وفقها، وكما لا يلتزم المواطن أو التاجر الذي يريد بيع دولاره للصرافين، بسعر أقل من سعر التطبيقات، “لم يعد بإمكان الصراف الإلتزام بسعر أقل. فعليه بيع الدولار إستناداً إلى السعر الذي اشترى به”، وفق ما يقوله أحد أعضاء نقابة الصرافين وبالتالي، سعر السوق بالنسبة للصرافين هو سعر السوق السوداء. ولذلك، كان الأجدى بالنقابة عدم الإشارة إلى قاعدة العرض والطلب، لأنها ليست هي من يحدد سعر الدولار.
ويأمل عضو النقابة بأن “تتوقف المنصات، ليعود التنسيق بين الصرافين ومصرف لبنان، وليتحدَّد سعر الدولار وفق هذا التنسيق”. وما عدا ذلك، “لا يمكن لمصرف لبنان فعل شيء، خاصة وأن التدخّل لضبط السعر يحتاج إلى كتلة نقدية كبيرة تُوضَع في السوق”.
تناقضات واضحة
الإحتكام إلى العرض والطلب لتحديد سعر الدولار، يعزّز موقف المنصة، فعبرها يتم تبيان حركة العرض والطلب، وهو ما لم يلتزم به الصرافون. كما أن النقابة التي تتنصّل من دور المنصة في تحديد السعر، كانت قد أعلنت بتاريخ 19/3/2021، بأنها “ستسعى مع السلطات الرقابية لتطبيق إجراءات الشفافية لحركة البيع والشراء للدولار من على المنصّة الإلكترونية التابعة لمصرف لبنان، فتكون تلك المنصّة مصدراً رسمياً لسعر الدولار الحقيقي وبديلاً للتطبيقات المشبوهة وأسعارها الموجّهة التي سيطرت على الأسواق وعلى حياة المواطنين”.
بالتوازي، إن التزام مصرف لبنان تأمين الدولارات للمستوردين، وعلى رأسهم شركات استيراد المحروقات، وفق سعر المنصة، هو دليل واضح على إمكانية اعتماد أسعارها.
ورغم وضوح التناقضات قولاً وممارسةً، يبقى أن الموقف الأخير للنقابة، هو الأكثر وضوحاً حيال إعلانها موت منصة صيرفة، ودخولها علانية، السوق السوداء.
المدن – حسان خضر