كتب إبراهيم حيدر في” النهار”:
في المبدأ تمكّن الرئيس الفرنسي أيمانول ماكرون من فتح كوّة في جدار الأزمة بين لبنان والسعودية وأعاد التواصل السعودي مع بيروت عبر الاتصال الثلاثي الذي قد يبقى يتيماً إلى أن تحين لحظة الاختراق الحقيقي في المسار التفاوضي مع المملكة الذي تريده فرنسا حول لبنان، وهو أمر قد يأخذ وقتاً وينتظر تنفيذ بيروت لخطوات عملانية وتحديد وجهة سياسية تمهد لعودة العلاقات اللبنانية – الخليجية وترفع الإجراءات التي اتخذتها السعودية ودول الخليج. ولعل استقالة وزير الاعلام جورج قرداحي وإن سهلّت مهمة ماكرون لكنها لم تحقق أي خرق في حلحلة الازمة الداخلية، فما لم تنعكس المبادرة الفرنسية انفراجات سياسية داخلية في إعادة إحياء الحكومة مثلاً، لن تكون عودة العلاقات الدبلوماسية بين لبنان والسعودية وبقية دول الخليج إلى طبيعتها وكذلك رفع العقوبات وإعادة إرسال السفراء والسماح بعودة السفراء اللبنانيين إلى العواصم الخليجية.
حتى الآن، لا مؤشرات تدل على أن الأمور ستعود إلى سابق عهدها بين الدول الخليجية ولبنان، والتقدم مرهون بتوسعة مروحة الاتصالات تطبيقاً للمبادرة، وأولها وفق مصادر دبلوماسية أن يتوقف التصعيد من الجانب اللبناني ضد السعودية نهائياً، خصوصاً من طرف “حزب الله” وإعلان موقف سياسي لبناني رسمي لا يقتصر على الكلام عن أهمية العلاقات، بل بالتزام لبنان عدم التدخل في الشؤون الخليجية، وما يرتبط به من في سياق التهدئة والعمل على حل الملفات العالقة، وتضيف أنه من المبكر الحديث عن زيارة رسمية لبنانية إلى السعودية، خصوصاً لرئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي. لكن إذا حصلت التهدئة والتزم لبنان تعهداته، يمكن أن تعود السعودية إلى جانب فرنسا ودول أخرى إلى تقديم الدعم الإنساني وتخصيص الجيش اللبناني بحصة استثنائية منه.
البيان الفرنسي – السعودي أكد ضرورة قيام الحكومة اللبنانية بإجراء إصلاحات شاملة، لا سيما الالتزام باتفاق الطائف، وهي رسالة موجهة إلى النفوذ الإيراني في لبنان والهيمنة التي يمثلها “حزب الله” وتحدد السقف الذي على أساسه قد تُستانف العلاقات الخليجية مع لبنان. وتنقل مصادر عن جهات دبلوماسية أن ماكرون كان واضحاً في كلامه وتشير إلى أنه أبلغ السعوديين أن عقوباتهم وإجراءاتهم التي تستهدف لبنان كله تؤدي إلى نتائج عكسية، خصوصاً وأن “حزب الله” لديه بنيته المستقلة عن الدولة، ولا بد من التفاهم والحوار ومد يد المساعدة من أجل تحقيق التوازن واستعادة مؤسسات الدولة، وهي وحدها يمكنها أن تسحب لبنان من دائرة نفوذ إيران وسيطرة أذرعها عليه.
يرتبط أيضاً تعديل السياسة السعودية تجاه لبنان بعد المبادرة الفرنسية بمصير التفاوض النووي في فيينا وبتطورات المنطقة. تقول مصادر سياسية، ما إن انطلقت مفاوضات فينا النووية حتى هدأت الجبهات الساخنة في المنطقة، خصوصاً المناطق التي تعتبر تحت التأثير الإيراني. فإلى جانب ملف التفاوض النووي، يُتوقع إذا تقدم على صعيد البنود الخلافية وتذليل العقد بين الولايات المتحدة وإيران واستطراداً القوى الدولية، أن يكون هناك نقاش في ملفات المنطقة، لا سيما النفوذ فيها. فالوصول إلى تفاهم جديد حول الملف النووي، إن كان بالعودة إلى الاتفاق السابق أو بإدخال تعديلات عليه، سينعكس على أوضاع المنطقة، بدءاً من ملف اليمن، إلى حل الأزمة العراقية لجهة تشكيل الحكومة الجديدة وفق التوازنات التي أنتجتها الانتخابات الأخيرة، أو تقاسم الهيمنة والنفوذ. لكن لبنان يشكل النقطة الاخيرة، إذ أن ترتيب الملفات كلها ستنعكس على وضعه، باعتباره مساحة نفوذ إيراني لا يتخلى عنها، وهو في الاساس يعاني من تعقيدات سياسية وانهيار معالم الدولة. ولذا كان إصرار السعودية على إدراج بند “ضرورة حصر السلاح بمؤسسات الدولة الشرعية، وألا يكون لبنان منطلقاً لأي أعمال إرهابية تزعزع أمن واستقرار المنطقة، ومصدراً لتجارة المخدرات”، وهي نقاط تعتبرها شرطاً أساسياً للعودة إلى المربع الأول في ما يتعلق بالوضع اللبناني.
كل ذلك يعني وفق المصادر السياسية أن استقالة قرداحي من الحكومة لم تحقق أي خرق على صعيد الأزمة الداخلية. السعودية لن تدفع الثمن الذي يريده لبنان إلا وفق شروطها. وما تسعى السعودية إلى اكتسابه لن تحصل عليه باستقالته، على الرغم من أنها سهّلت المهمة الفرنسية وفتحت كوة في جدار البحث في الأزمة. لكن السعودية يبدو أنها قطعت الطريق على استغلال الاستقالة لتحقيق مكاسب فرقاء لبنانيين على حساب آخرين. فالرئيس ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل حاولا المراكمة على الاستقالة لتسليف مواقف للسعودية ودول الخليج، وان كانا أبقيا على خطوط التواصل والعلاقة مع “حزب الله”. وبسبب الصراع القائم لا يبدو حتى الآن أن هناك مخرجاً لإعادة الحكومة وحلّ مشكلة التحقيق ومصير القاضي طارق البيطار.
في المعضلة الداخلية يبدو أن الامور بحاجة الى مزيد من المفاوضات، لإقرار حصر التحقيق مع الرؤساء والنواب والوزراء بالمجلس الأعلى لمحاكمتهم، في جلسة مجلس النواب، وهذا الامر سيكون له أثمان سياسية متبادلة بين الفرقاء. وقد تكون التسوية بحسم البحث في الحلّ القضائي، مقابل القبول بالطعن المقدم حول قانون الانتخابات من العونيين.
وفي انتظار ترجمة المبادرة الفرنسية مع السعودية، يبقى لبنان ساحة نفوذ إيرانية، فهو الحلقة الأضعف بين الدول أو مناطق الصراع الإقليمي والدولي. ففي مجال النفوذ الذي يقاس بمقدار الداخل، تبدو الهيمنة الإيرانية واضحة وفقاً لموازين القوى القائمة. إيران استثمرت في “حزب الله” وباتت أكثر قوة من الآخرين، طالما ذراعها المسلحة التي ترفع شعار “المقاومة” واستطراداً الشيعية السياسية متحكمة بالمسار اللبناني العام ومتقدمة على الطوائف الاخرى التي تغالب أو المذهبيات التي تسعى إلى إعادة ترتيب أوضاعها وبناء وزن أهلي لها في التركيب اللبناني الحالي. وما نشهده من صراعات وقدرة على التعطيل يدل على مساحة نفوذ “حزب الله”.
أي انفراج سيحدث في العلاقات مع دول الخليج مرتبط وفق المصادر بكيفية استخدام طهران فائض قوتها في الداخل اللبناني. وعليه لا يمكن الحل من دون كلمة حاسمة للإيرانيين، بما فيها الملفات العالقة داخلياً ومنها الحكومة والقضاء وتحقيق المرفأ وأخرى مرتبطة بالصراع الإقليمي…