أحكمت السوق السوداء قبضتها على خناق اللبناني في كلّ المواد التي يحتاجها ليحيا، والغاز المنزلي كان حلقة جديدة في سلسلة حصار الدولار الذي لا يمكن لأحد أن يتكهّن متى وكيف سينتهي!
في أوائل الشهر الماضي رفع الدعم عن الغاز، المادة الحيوية المتبقيّة لإعداد الغذاء وللتدفئة شتاء، وحتى يوم الجمعة 19 تشرين الثاني، كان سعر قارورة الغاز في المحل التجاري يبلغ 275,000 بعمولة توزيع 17000 ليرة وعمولة محل 500 ليرة، على أنّ السعر يواصل تصاعده أسبوعيا وفق سعر الصرف المحلي، وسعر الغاز العالمي
المصرف المركزي أكمل مهمته بتحرير المحروقات برفع الدعم عن غاز المنزل واضعا الكرة في ملعب وزارة الطاقة والمياه، التي يقتصر دورها حاليا على تسعير الوقود مرّتين أسبوعيا، إستجابة لصرخة النقابات، وتلافيا للإشكالية التي أدّت سابقا لإقفال الشركات الموزعة للغاز إثر التغيّر اليومي لسعر الصرف، فيما صرخة المواطن لم تجد من يتلقّفها!
رفع الدعم عن الغاز تمّ بشكل مفاجىء، بحسب رئيس نقابة العاملين والموزعين في قطاع الغاز ومستلزماته في لبنان فريد زينون الذي أفاد لـ «الديار» بأنّ الشركات أصبحت تستورد الغاز من الخارج بالدولار، معيدا ارتفاع سعر القارورة إلى ارتفاع سعر الغاز عالميا وإلى عدم إستقرار الدولار محليا، مؤكدا أنّه كلّما ارتفع سعر الصرف وزاد الغلاء العالمي سنتأثر في لبنان ويزيد السعر.
وفيما خصّ تداعيات رفع الدعم عن الغاز والإرتفاع التصاعدي لسعره، لفت زينون إلى أنّ التأثير يطال المواطن بالدرجة الأولى، كما الأفران والمطاعم والمستشفيات والصناعيين وسواهم، وبالتالي معظم السلع الغذائية.
وشدّد على أنّ الفقير هو الضحية الأبرز، لا سيّما مع اقتراب فصل الشتاء، حيث يزيد مصروفه من الغاز، فبعد أن كانت القارورة تكفي لـ 20 أو 25 يوما للطهي، لن تدوم لأكثر من 15 يوما في الشتاء، وبالتالي ستحتاج الأسرة شهريا إلى نحو قارورتين للطهي وقارورة للتدفئة كل 3 أو 4 أيّام، لافتا إلى أنّ سعر قارورتين ونصف من الغاز أصبح يوزاي اليوم الحد الأدنى للأجور، متمنيا على الدولة دعم الغاز المنزلي لمدّة 3 أشهر، فلبنان يستهلك بين 1200 و 1300 طن من الغاز يوميا أي بمعدّل دعم يبلغ 12 مليون دولار.
وفي معرض حديثه، كشف زينون بأّنّ مواطنين يتصلون بالنقابة لطلب الغاز مجانا فلا مال لديهم، وأنّ آخرين يطلبون تعبئة 4 كيلو فقط من القارورة، معتبرا أنّ هذه مأساة كبيرة، وطلب رئيس الحكومة والوزراء المعنيين إيجاد حل أقله للأشهر الثلاثة المقبلة، كي يؤمّن الناس تدفئتهم و»ما يموتوا من الصقعة» وخصوصا كبار السن، فاليوم لا يستطيع أحد تشغيل مدفأة على عدّاد المولدات الخاصة لارتفاع التكلفة.
وفيما يشتكي العاملون في قطاع الغاز من الخسارة، يعيد زينون ذلك إلى أنّ الوزارة كانت تسعّر على دولار متدن فيما يرتفع خلال النهار، ما حدا بالنقابة لطلب التسعير حسب سعر الصرف اليومي، كي لا تنقطع هذه المادّة ولا يتحمّل أحد أي خسارة، مؤكّدا أنّه كلما تمّ التسعير يوميا لن ينقطع الغاز.
عطفا على ذلك، يلمس المواطن إختلافا في سعر قارورة الغاز بين محل تجاري وآخر، وفي هذا أوضح زينون أنّ كل بائع يسعّر بمفرده، وهنا يبرز دور حماية المستهلك التي يجب أن تلاحق كلّ من لا يتقيد بالسعر الرسمي، لافتا إلى أنّ الموزعين يسلّمون المحال التجارية والشركات وفق الجدول الرسمي، لافتا إلى أنّ سعر القارورة يختلف بين المحل التجاري والشركة تبعا لهامش الربح وخدمة توصيل وسواها.
يعتبر الغاز مادة حيويّة أساسيّة وفق زينون الذي قال إنّ نحو 85% من اللبنانيين يستعملون الغاز للتدفئة وتسخين المياه لعدم توفر الكهرباء، ونحو 15% لديهم حطب أو أجهزة تدفئة تعمل على المازوت، ولكن أغلبهم غير قادر على شراء الغاز والمازوت، وشدّد على أنّه يجب النظر بحال الفقراء وغلاء الغاز خصوصا في هذه الأشهر الثلاث، وأن يكون هناك دعم للغاز المنزلي بأسرع وقت ممكن قبل حلول فصل الشتاء، لافتا في المقابل الى عدم تجاوب الوزراء المعنيين دائما مع النقابات، متمنيّا عليهم التعاون لأنّ ذلك يساهم في تلافي المشاكل التي نقع فيها يوميا.
الباحثة في الشؤون الاقتصادية والماليّة الدكتورة فاطمة رحّال، ترى بأنّ الإرتفاع الجنوني لسعر قارورة الغاز المنزلي أصبح عبئا ثقيلا على موازنة الأسرة، فبعد أن كان سعرها 25 ألف ليرة في حزيران يتعدى اليوم 270 ألف ليرة، بسبب رفع الدعم وتحرير سعر الصرف، فأصبح التسعير بحسب دولار السوق السوداء، وهذا ما أدّى لرفع سعر الغاز بطريقة جنونية تفوق طاقة المواطن، بالأخصّ أنّ معظم المواطنين اليوم يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية، وأنّ 40% منهم يقلّ راتبهم عن مليون و400 ألف ليرة.
ولفتت إلى أن سعر صرف الدولار ينحو تصاعديا بسبب عدم إنتفاء الأزمات التي يعاني منها إقتصاد لبنان، ما سيجعل سعر الغاز عرضة للتغير يوميا، وسيؤدي ذلك لخلق مشكلة بين الشركات المستوردة وشركات التعبئة والتوزيع والمستهلكين، ما ينبئ بفوضى في هذا القطاع، لا سيّما في الفترات التي لا يستقر فيها سعر صرف الدولار، عدا عن إحتمال إنقطاع هذه المادة.
وأشارت إلى أنّ الغاز مادة حيوية تعتمد عليها كلّ الأسر بطهي الغذاء والتدفئة، ولفتت إلى أنّ الغاز يرتبط بحاجات رئيسية للمواطن وليس كماليات يمكن الإستغناء عنها، معتبرة أنّه من الصعب إيجاد بديل عنه .
وبمقارنة بين حد أدنى للأجور يبلغ اليوم 675 ألف ليرة أي حوالي 30 دولارا وبين سعر قارورة غاز حوالي 10 دولار ونصف، خلصت رحّال إلى أنّ الحد الأدنى للأجور يكفي لحوالي 3 قوارير غاز أو أقل، مؤكدّة أنّ أكثر من يتضرّر من إرتفاع سعر الغاز هي الفئة الفقيرة التي تشكّل اليوم 70% من سكان لبنان بحسب تقارير البنك الدولي.
الأثر الإضافي لارتفاع سعر الغاز يمتد للدورة الإقتصادية ككلّ، فبحسب رحّال تعتمد العديد من المصالح التجارية كالمطاعم والأفران على هذه المادّة، ما سينعكس ارتفاعا في أسعار المنتجات وسينخفض الطلب والإنتاج فيها، ويؤدّي لتسريح قسم من الموظفين الذين سينضمون للعاطلين عن العمل بظل ارتفاع معدلات البطالة لأكثر من 40% في لبنان.
وعما اذا كان بإمكان البنك المركزي أن يطيل عمر هذه المادة الحيوية ويخفف من معاناة اللبنانيين؟ تؤكّد رحّال أنّه كان من الممكن إطالة عمر الدعم على سلع حيوية للمواطن تمس بقوته اليومي وذلك بترشيده ، مضيفة أنّه إذا ما قارنا بين كلفة الغاز البالغة 200 مليون دولار، والأثر الإقتصادي على المواطنين بانخفاض قدرتهم الشرائية، نجد أنه كان يجب إيجاد حلّ لإطالة عمر الدعم حتى تنجز حلولا أخرى منها بشكل مبدأي البطاقات التموينية.
وترى رحال أنّ الحل المبدئي وعلى المدى المنظور، يبدأ بايجاد حماية أو مساعدة إجتماعية للأسر الأشد فقرا بالبطاقة التموينية والتي هي عبارة عن بطاقات مساعدة قصيرة الأجل .فيما تعتبر في المقابل، أنّ الحلول لمشاكل لبنان الإقتصادية يجب أن تكون ضمن خطة متكاملة وشاملة، وطويلة الأجل ترتكز على الأمور البنيوية التي أوصلت الى التذبذب بسعر الصرف، وبأن تعالج الحكومة الملفات الأساسية التي ستنعكس على تحسين جميع القطاعات، فاليوم الحد الأدنى للاجور مشكلة يجب معالجتها، فمن غير المنطقي ألا يكفي إلا لشراء قارورتين أو 3 قوارير غاز، وأوصت رحّال بالبحث عن مصادر تمويل من خلال الدولار الجمركي وفق سعر مدروس لا يتعدّى 10 آلاف ليرة، فهذا السعر سيخلق تضخما ويفاقم المشكلة الموجودة في لبنان.
تجاذبات كثيرة حدثت بين أصحاب معامل تعبئة الغاز والموزعين ووزارة الطاقة أفضت إلى تسعير المحروقات مرتين أسبوعيا، وربّما يوميّا لاحقا، فيما التجاذبات النفسية والصحية والمعيشية التي يعيشها المواطن لا تتلقفها أي جهة رسميّة وجدت في الأساس لخدمته، كما لم تلقَ أيّ صدى نداءات كثيرة لاستثناء شتائيّ لمادة الغاز المنزلي من قرار رفع الدعم.
وفيما يمثّل الغاز المنزلي أقلّ من 5% من قيمة فاتورة المحروقات في لبنان، فإنّه يحرق بأسعاره أكثر من 80% من الشعب اللبناني، فيما الدولة تحاول تضميد قرارها بمعونة من هنا ومبلغ مالي من هناك، ما يطرح تساؤلا يشبه: أليس إبقاء الدعم على الغاز ولو لفترة محددة الحل الأوفر للجميع؟
علاوة على ذلك، وحتى تحقيق الوعود بزيادة ساعات التغذية أوائل العام القادم، سيواصل سعر الغاز بالتحليق بلا أفق، وعيش يا فقير!
المصدر: الديار – يمنى المقداد