من خلال حملة قانونية وسياسية منسقة، قد يستطيع المودعون الساخطون في لبنان أخيراً إجبار النخب المصرفية على تحمل مسؤولية أفعالها.
عندما انهار القطاع المالي في لبنان، كان حتمياً أن تحاول النُخب في البلاد الدفع بهذه الخسائر، لكي يتكبدها اللبنانيون العاديون. فعلى مدى سنوات عدة، جازف المصرفيون اللبنانيون بمدخرات عملائهم، ما جعل المصارف عاجزة عن سداد ديونها بحلول تشرين الأول/ أكتوبر 2019، إن لم يكن قبل ذلك.
وقد أعقب ذلك تطبيق ممارسة غير قانونية سافرة. فقد عززت المصارف التجارية في البلاد، بموافقة مصرف لبنان، من نظام غير قانوني لفرض ضوابط رأس المال. ولم يعد بإمكان معظم المودعين تحويل أموالهم إلى الخارج أو تحويل مدخراتهم من الليرة اللبنانية إلى الدولار الأميركي.
بيد أنه في الوقت نفسه، لم تُطبق هذه الضوابط المفروضة على رأس المال على المصرفيين أنفسهم في لبنان، والشخصيات السياسية البارزة، وغيرهم من النخب النافذة، إذ تمكن هؤلاء من إنقاذ ممتلكاتهم من النظام المالي المتداعي.
وكما أوضحت الدراسة التي صدرت حديثاً عن موقع “تراينغل” بشأن السياسات العامة، فمن المؤكد أن لدى المودعين في لبنان ادعاءات قانونية مقنعة بلا شك. فمن خلال نظام ضوابط رأس المال، انتهكت المصارف اللبنانية حقوق عملائها التعاقدية، فضلاً عن مجموعة كبيرة من القوانين المحلية والدولية.
فقد تنصلت المصارف اللبنانية من المسؤولية عن هذه الانتهاكات، مفضلةً الاعتماد على سياسة الترهيب. وعمدت مصارف كثيرة إلى إغلاق حسابات المودعين المزعجين من دون الرجوع إليهم، وقدمت شيكاً مصرفياً عن أرصدتهم المستحقة التي تعادل فعلياً نحو 20 في المئة من قيمة الودائع الحقيقية.
ومع الأسف، وجد المودعون أن العدالة المحلية تعاني من العجز. إذ انحازت السلطة القضائية اللبنانية، التي تفتقر إلى النزاهة، عموماً إلى المصارف. فضلاً عن أن حكومة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي- التي على رغم تشدقها بعبارات حول تمهيد الطريق لتوزيع عادل للخسائر المصرفية- لديها علاقات مشبوهة مع النخب المصرفية، بدءاً من شقيق رئيس الوزراء نفسه.
في ظل غياب الخيارات المحلية، اتخذت المعركة القانونية ضد المصارف اللبنانية طابعاً عالمياً. فقد رفع المودعون الذين يحملون جنسيات أجنبية دعاوى مدنية في الولايات القضائية التي تمتلك فيها المصارف محافظ استثمارية كبيرة للأصول، مثل فرنسا وسويسرا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. وإذا نجحت هذه الدعاوى، بإمكان المحاكم الأجنبية أن تصدر حكماً يسمح للمودعين بالحصول على مدخراتهم، تحت التهديد بالاستيلاء على أصول المصارف في الخارج.
حتى الآن، أحرز المودعون تقدماً أولياً في ما يتعلق بالإجراءات المدنية. فقد أكدت المحكمة العليا في المملكة المتحدة أن المحاكم البريطانية يمكن أن تنظر في دعويين على الأقل من المودعين اللبنانيين- وهي خطوة رئيسية في العملية القانونية. بيد أن الموقف لا يزال أقل وضوحاً في فرنسا والولايات المتحدة، حيث رفض القضاة البت في قضايا محددة.
غير أنه من الواضح أن الدعاوى المدنية وحدها لا يمكن أن تنقذ معظم المودعين المتضررين في لبنان. إذ يتطلب الأمر أن يحمل المدعون عادة جنسية أجنبية، فضلاً عن الموارد المالية الكبيرة. ففي نيويورك، أفادت تقارير بأن اثنين من المودعين أنفقا نحو مليون دولار على الرسوم القانونية فحسب- ومع ذلك رفضت المحكمة قضيتيهما.
لكن هذا لا يعني أن الأنظمة القانونية الأجنبية غير قادرة على مساعدة المودعين اللبنانيين العاديين. بدايةً، يتعين على المودعين ممارسة الضغوط على المدعين العامين الأجانب لبدء التحقيقات في المسؤولية الجنائية المحتملة للنخب المصرفية اللبنانية.
فعلى سبيل المثال، يمكن أن تحقق وزارة العدل الأميركية في احتمال حدوث انتهاكات لقوانين الاحتيال والفساد الأميركية والتشريع الجديد الذي يحظر على الأشخاص البارزين سياسياً إخفاء ثروتهم. ويُشترط أيضاً على المودعين تقديم أدلة على ارتكاب مخالفات، ربما من خلال المبلغين عن الفساد داخل القطاع المالي اللبناني.
يمكن أن تتسبب القضايا الجنائية في تورط الشركاء التجاريين للمصارف اللبنانية في الخارج. فبموجب قوانين مكافحة غسل الأموال، ينبغي على المصارف الأجنبية إجراء فحص دقيق لِهوية العميل (أو ما يعرف بنموذج اعرف عميلك) وذلك للتحقق من مصدر التحويلات الإلكترونية. وعليه، فقد تجد هيئة تنظيمية أجنبية أن المصارف الخارجية لا تمتثل لمتطلبات ومعايير نموذج “اعرف عميلك” عقب الانهيار الاقتصادي في لبنان، وهو ما يعرض تلك المصارف لغرامات مالية ضخمة.
الأهم هنا هو أن الدعاوى القضائية المرفوعة ضد المصارف اللبنانية، لن تؤدي إلى استرداد مدخرات المودعين مباشرة. لكنها ستفرض ضغطاً هائلاً على النخب المصرفية وتجبرها على التفاوض بإنصاف مع المودعين. ربما يؤدي إشراك المصارف الأجنبية التي تعمل وفقاً لمعايير “نموذج اعرف عميلك” إلى زيادة حدة التوتر. فإذا ثبتت إدانتها، ستقوم المؤسسات الخارجية على الأرجح بإنهاء معاملات المراسلة المصرفية مع المصارف اللبنانية، معتبرة أن لبنان يمثل مخاطرة تجارية كبيرة للغاية.
في الوقت ذاته، لا بد أن يواصل المودعون حملتهم الرامية إلى فرض الدول الأجنبية عقوبات على المصرفيين والسياسيين اللبنانيين. ففي تموز/ يوليو، أقر المجلس الأوروبي إطاراً قانونياً لنظام عقوبات، يستهدف أفراداً لبنانيين ارتكبوا “انتهاكات جسيمة تتعلق بسوء الإدارة المالية”، إضافة إلى بعض الجرائم الأخرى.
تستطيع وزارة الخزانة اللبنانية محاصرة النخب المصرفية من خلال نظامها واسع النطاق الخاص بإعداد تقارير الحسابات المالية، بدلاً من النهج الحالي الذي تتبعه واشنطن والمتمثل في فرض عقوبات على أفراد بعينهم.
وأخيراً، يمكن أن يلجأ المودعون الساخطون إلى ممارسة الضغط المعنوي على الهيئات الأجنبية الداعمة للنظام المالي في لبنان. تمتلك بعض المؤسسات المدعومة من الدولة أسهماً في المصارف اللبنانية، مثل مؤسسة التمويل الدولية، وهي أحد أعضاء مجموعة البنك الدولي، والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، والوكالة الفرنسية للتنمية، وتتبنى هذه المؤسسات أفضل الممارسات التي تحقق أهدافاً اجتماعية – وهو أمر يتنافى مع دعم تلك الضوابط التمييزية المفروضة على رؤوس الأموال.
تنطبق حجج أخلاقية مماثلة على كثر من المساهمين في القطاع الخاص والشركاء الماليين للمصارف اللبنانية. غالباً ما تعتمد الشركات الأجنبية الكبيرة تعهدات طوعية في ما يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية للشركات وذلك لتقليل الأضرار. على سبيل المثال، وقع 13 من كبار الممولين على مبادئ وولفسبيرغ لمحاربة غسيل الأموال، من بينهم بنك سوسيتيه جنرال الفرنسي- المساهم الرئيسي في بنك سوسيتيه جنرال لبنان.
يمكن شن الحملات الإعلامية التي تستهدف الهيئات العامة والخاصة الداعمة للمصرفيين اللبنانيين. وينبغي التركيز على زيادة الوعي بشأن التناقضات الشاسعة بين المزايا المزعومة لتلك الشركات الأجنبية ومعاملاتها التجارية الفعلية، التي قدمت الدعم لنظام مالي مفلس- على الصعيد المالي والقانوني والأخلاقي.
الشعب اللبناني ليس بحاجة إلى من يذكره بأن زعماءه عنيدون بشكلٍ مذهل. ولهذا، لا بد أن يضغط المودعون بدرجة عالية للغاية على النخب المصرفية في لبنان لاسترداد ولو جزء بسيط من مدخراتهم. ثمة حملة إعلامية وقانونية منسقة تسعى إلى ملاحقة المصرفيين وحلفائهم من خلال رفع الدعاوى المدنية وإجراء التحقيقات الجنائية وشن الحملات الإعلامية- كل هذا دفعة واحدة.
منذ أمد بعيد، والطبقة السياسية والمصرفية في لبنان تتكل على النظام السائد في البلاد، القائم على التعنت الشديد والإفلات من العقاب. يمنح الضغط القانوني في الخارج بعض الأمل للمودعين في أن يتمكنوا أخيراً من هدم جدار العناد الطفولي ذاك، والحصول على أموالهم، وتعجيل العقاب الذي تأخر كثيراً.
المصدر: درج – ديفيد وود