كتب إبراهيم بيرم في ” النهار”:
لاريب أن ثمة مَن فوجئ عندما تناهى إلى سمعه فحوى الكلام الذي أطلقه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في مطلع الاسبوع الجاري امام اعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي بالقرب من ساحة النجمة في وسط العاصمة. فخلافاً لما كان يتوقعه البعض تحدث ميقاتي بكل هدوء ورويّة عن مشاريع قد وضعت لإعادة إنهاض الاقتصاد المتداعي وتفعيل مؤسسات الدولة المترهلة وبعث بعض الطمانينة في نفوس المواطنين المقيمين على قلق من غموض المستقبل.
وهكذا بدا ميقاتي وكأنه يتحدث عن حكومة فاعلة وواعدة وأنها باقية وليست آيلة إلى زوال قريب. وعليه تيقن المتوجّسون ان ميقاتي قطع دابر الشك والتردد وقرر الصمود أمام كل الضغوط التي انفجرت دفعة واحدة منذ الجلسة الاولى لحكومته التي تألفت بشقّ النفس وبعد مخاض عسير، واستطرادا عزم ميقاتي على المضيّ قدماً على رأس حكومة لم تعقد منذ استيلادها إلا ثلاث جلسات لينفجر في داخلها لغم قضية المحقق العدلي وذهبت شظاياه في كل اتجاه، لاسيما بعد أحداث الطيونة، مما اضطره إلى تأجيل الدعوة إلى جمع هذه الحكومة متحاشياً بذلك الاجراء غضباً عارماً من وزراء “الثنائي” الذين جاهروا بأنهم يريدون رأس هذا المحقق قبل أي عودة لهم إلى الحكومة من شأنها ان تؤمّن نصاباً.
ثم ومن غامض عِلم الله أتى “انفجار قنبلة” أخرى أكثر دوياً وأوسع شظايا هي قضية الغضب السعودي، وهكذا وجد الرئيس ميقاتي نفسه فجأة محاصراً بين مفاعيل غضبين ساطعين اولهما داخلي وثانيهما خارجي.
فضلاً عن ذلك، تطلّع ميقاتي حوله نحو الرئاستين الاولى والثانية منتظراً موقفاً حاسماً ودوراً فاعلاً منهما يسنده ويوفر له جرعة دعم تقلل شعوره بالوحدة، فلم يجد منهما إلا صمتاً وموقفاً رمادياً وقصوراً عن المبادرة والفعل، علما ان ثمة من نقل اليه بداية رسالة فحواها ان الرئيس نبيه بري ينتظر مؤشراً ما لكي ينطلق في مبادرة من شأنها اطفاء الغضب السعودي وتعيد وصل ما انقطع مع المنظومة الخليجية، ولكن انتظاره طال بلا طائل وجدوى.
حيال ذلك كبر رهان البعض على ان ميقاتي لن يلبث إلا قليلا في هذا الموقع الصعب، لاسيما ان لديه كل المبررات التي توفر له خروجاً آمناً بل خروجاً مدوياً يكسبه تعاطفاً كونه في موقع المظلوم والمضطهد.
وتخطى الرجل كل هذه الرهانات وقرر التحدي والمضي قدماً وربما وحيداً في ميدان المواجهة والتعقيد.
وعليه فان السؤال المطروح هو: لماذا يتحمل ميقاتي وحده ثقل مرحلة تنوء بتركة من المخاطر، اضافة إلى احتدام صراعات في الاقليم هي أقرب ما تكون إلى صراعات الفيلة لا ترحم ولا تقيم اعتباراً لأي خطوط حمر؟
الاجابات والتفسيرات لا شك في انها متعددة، وملخصها كما ينقل مقربون من ميقاتي انه قرر سلوك الطريق الوعر واتخذ قرار التحدي لانه لا يريد تقديم رأس الحكومة لأي جهة لان البديل منها متعذر وفقدانها انزلاق موصوف نحو مزيد من المآسي والتداعيات السلبية. لذا فان التوجه الذي رسمه ميقاتي للمرحلة المقبلة يعتمد على الاسس الآتية:
– ان المشكلة الاساسية التي أفضت إلى شلل الحكومة، وهي اعتراض فريق ومكوّن على “استنسابية” المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، وعلى رغم احتدامها الحالي، لا بد واجدة حلاً لها ذات يوم، اذ لا يمكن استمرار هذه القضية متفاعلة، ولا يمكن استمرار هذه الفوضى وهذا الضياع في الجسم القضائي إلى الابد. وثمة “عروض” قُدمت وصيغ تسويات وحلول طُرحت قبل فترة، وهي وإنْ تبددت استهلالاً، إلا انها فتحت باب المعالجات على مصراعيه.
صحيح ان انفجار الازمة الديبلوماسية مع المملكة العربية السعودية ما برح في ذروة احتدامه، لاسيما ان الرياض لم تبدِ اي تهاون او تسامح، وان الطرف الآخر المعني في الداخل اللبناني لم يقدِّم اي تنازل يعامَل كبادرة حسن نية ويُعتد به، الا ان ثمة في طوايا المشهد انفتاحا ضمنيا على ايجاد الحلول، وكانت الفاتحة زيارة وفد الجامعة العربية إلى بيروت، خصوصا ان ثمة من يعطي انطباعا يوحي بان المنظومة الخليجية قد بعثت إلى المعنيين في العاصمة اللبنانية بإشارات ورسائل تنطوي على ما يوحي بان موجة الغضب العارمة من لبنان لن تصل إلى حدود محظورَين هما القيام بإبعاد عدد من اللبنانيين العاملين في دول الخليج، او اتخاذ اجراءات تمنع التحويلات المالية إلى لبنان.
ان “الطرف الممانع” يقدم يوميا براهين على تمسكه بالحكومة الحالية ورئيسها، وان مصلحته الكبرى تكمن في الحيلولة دون اي اجراء او تطور يؤدي إلى انفراط عقد هذه الحكومة وتقديم رأسها على طبق من ذهب إلى “مروحة الخصوم والاعداء” في الداخل والخارج على حد سواء.
– لم يعد سراً القول إن ميقاتي تلقّى خلال وجوده في مؤتمر المناخ في غلاسكو ولقاءاته المكثفة هناك تعاطفا ودعما غربيا وتوصيات بضرورة ان يبقى صامدا وان لا يتراجع نحو الاستقالة وتحويل الحكومة إلى حكومة تصريف اعمال، لقناعة بان نتائج وضع من هذا النوع في المرحلة المقبلة تبدو كارثية على مستقبل الوضع في لبنان.
وفي الخلاصة فان ميقاتي ليس اطلاقا في وارد التضحية بحكومته الثالثة بهذه السرعة، اذ انه يرى ان بالامكان إمرار المرحلة الراهنة بأقل قدر من الخسائر، ولكنها ستكون اقل بكثير من الخسائر التي ستتولّد بفعل استقالة الحكومة.