شهدت الليرة اللبنانية انخفاضا حادا مفاجئا منذ بداية الشهر الماضي، على عكس مسارها المتصاعد الذي تلا تعيين نجيب ميقاتي رئيساً للوزراء.
وكانت الليرة اللبنانية قد فقدت أكثر من 90٪ من قيمتها منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية في لبنان في منتصف عام 2019، لكنها عاودت الصعود ليصل سعرها إلى 16,500 ليرة لبنانية مقابل الدولار في 26 يوليو/تموز الماضي بعد ميقاتي.
وما أن شكل ميقاتي الحكومة الجديدة في أوائل سبتمبر/أيلول، بعد أكثر من سنة من الجمود السياسي، حتى عاد بعض التفاؤل إلى العملة المحلية التي قفز سعرها إلى 13,700 ليرة مقابل الدولار في 16 سبتمبر/أيلول.
ولكن في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، شهدت العملة انخفاضا حادا، وتوصل تحقيق أجرته “فوربس الشرق الأوسط” إلى أن ثمة صفقة كانت وراء الانخفاض لإرضاء المستوردين على حساب الشعب.
الصفقة التآمرية
يفيد مسؤولون سابقون وخبراء لفوربس الشرق الأوسط، بأن هذا الانخفاض الحاد يحمل خلفه صفقة مستترة بين مصرف لبنان ووزارة الاقتصاد لتعويض الواردات المدعومة من الأغذية التي تأخرت سداد مستحقاتها، بسعر صرف أعلى بكثير مما دفعه المستوردون في البداية.
تأتي هذه الصفقة كأحدث مثال لنتائج الافتقار إلى الشفافية وحلول الإسعافات الأولية التي ساهمت في تفاقم الانهيار الاقتصادي في لبنان، الذي دفع أكثر من ثلاثة أرباع السكان إلى الفقر، ومحو المدخرات، وخفض القدرة الشرائية للمواطنين.
خلق نقود محلية لسداد ديون قديمة بالدولار
في مايو/أيار 2020، كان وزير الاقتصاد آنذاك، راوول نعمة، قد أطلق “سلة غذائية” مدعومة مثيرة للجدل ضمت نحو 300 سلعة مستوردة، بهدف تحقيق الاستقرار في أسعار المواد الغذائية المرتفعة. وكان مصرف لبنان يمول البرنامج باستخدام احتياطياته الدولارية الآخذة في التضاؤل.
لكن المصرف المركزي توقف عن دفع فواتير استيراد المواد الغذائية المدعومة التي تمت الموافقة عليها سابقًا في النصف الأول من العام بعد تراجع احتياطياته الدولارية ووصولها إلى مستويات منخفضة للغاية، حسبما قال رئيس نقابة مستوردي الأغذية، هاني بحصلي، لفوربس الشرق الأوسط.
عندها، اضطر المستوردون للدفع مرتين مقابل سلعهم. حيث أودع مستوردو المواد الغذائية، بموجب برنامج الدعم، القيمة المقابلة لفواتيرهم في البنك المركزي بالليرة بسعر قياسي قدره 3900 ليرة للدولار الأمريكي، وهو أقل من نصف القيمة السوقية لليرة.
ومع تراكم المبالغ المستحقة من مصرف لبنان في 2021، تحتّم على المستوردين أن يدفعوا لمورّديهم الأجانب من جيوبهم الخاصة، باستخدام دولارات كان على الكثيرين تأمينها بسعر السوق الموازي، وأصبح مستوردو المواد الغذائية أمام خطر الإفلاس.
لهذا أشار نعمة في حديثه لفوربس الشرق الأوسط: “إما أن تدفع للمستوردين بالدولار، أو تدفع لهم بالليرة اللبنانية، أو يفلسون”.
وقال نعمة “طلبت من مجلس المركزي لمصرف لبنان أن يعيد لهم أموالهم بالليرة بسعر صرف السوق”، وبهذه الطريقة، استلم المستوردون الذين أودعوا الليرة بسعر 3900 ليرة للدولار أكثر من 3.5 أضعاف المبلغ الذي أودعوه في مصرف لبنان، وهي خطوة أدت إلى المزيد من الضغط على قيمة العملة الوطنية.
احتوت هذه الصفقة على فواتير استيراد مؤجلة تقدر بنحو 40-70 مليون دولار، بحسب البحصلي، الذي تحدث بصفته رئيس النقابة وليس كمستورد، وقال إنّه لم يستفد من برنامج دعم السلة الغذائية.
وأشار البحصلي إلى أنه من الصعب تحديد القيمة الدقيقة للفواتير المتأخرة، وبالتالي يمكن تقديرها بين 40 و70 مليون دولار. ولم يقدم مصرف لبنان المبلغ الإجمالي على الرغم من طلب فوربس الشرق الأوسط.
انهيار إضافي لليرة
أبلغ البنك المركزي وزير الاقتصاد السابق نعمة أن سداد الفواتير بالليرة اللبنانية دفعة واحدة سيضع ضغوطًا كبيرة على قيمة العملة الوطنية، بحسب نعمة. وأصبح بإمكان سكان لبنان شراء الدولارات نقدًا فقط من الصيارفة.
وفي هذا السياق، قال الخبير الاقتصادي ووزير الاقتصاد السابق ونائب محافظ مصرف لبنان، ناصر السعيدي، إن سوق الصرافة في لبنان “يفتقر إلى السيولة على نحو كبير، وبالتالي فإن أي مبلغ صغير، حتى بضعة ملايين من الدولارات، يمكنه أن يحرك سعر صرف الدولار”.
وللحد من الضغوط التي تؤثر على الليرة اللبنانية، وافق المسؤولون على تقسيم المدفوعات على 13 دفعة، بحيث تغطي الدفعة الأولى نحو 40٪ من فواتير مستوردي المواد الغذائية، التي تصل إلى 20 مليون دولار، بينما يُدفع الباقي شهريًا بالتساوي على مدار عام واحد.
وقال البحصلي وأحد مستوردي الأغذية الرئيسيين، ممن استفادوا من البرنامج وطلب عدم الكشف عن هويته، إن البنك المركزي بدأ تسديد الدفعة الأولية التي تبلغ 40٪ في نهاية الأسبوع الثالث من سبتمبر/أيلول عندما وصل سعر الدولار إلى 14,500 ليرة لبنانية.
أكد المتحدث باسم مصرف لبنان، حليم بيرتي، أن البنك سدد المبالغ المستحقة للمستوردين بالليرة في نهاية سبتمبر/أيلول، من دون تحديد التاريخ. وبهذا، استلم التجار أكثر من 200 مليار ليرة لبنانية من مصرف لبنان لتغطية حوالي 20 مليون دولار بالإضافة إلى المبلغ الذي دفعوه في البداية والذي وصل إلى 78 مليار ليرة.
قدّرت فوربس الشرق الأوسط المبلغ الإجمالي الذي تم صرفه باستخدام نهج متحفظ.
تعكس قاعدة بيانات المعروض النقدي لدى مصرف لبنان المبلغ الذي تم صرفه لتسديد الواردات بالليرة.
زاد إجمالي النقد M1، الذي يمثل إجمالي مبلغ الودائع تحت الطلب بالليرة اللبنانية والعملة المتداولة، بمقدار 958 مليار ليرة لبنانية (45.62 مليون دولار) خلال الأسبوعين الأخيرين من شهر سبتمبر/أيلول، مقارنة بنحو 586 مليار ليرة لبنانية (27.9 مليون دولار) خلال الفترة ذاتها قبل شهر، بحسب إحصاءات مصرف لبنان.
اعتبر مستشار تمويل الديون، مايك عازار، “إن البنك المركزي يتكبد خسائر لتغطية تكاليف سلة الغذاء وهو، على ما يبدو، يعمل على تضخيم المعروض النقدي بالليرة لتغطية هذه الخسائر، فهذه الخسارة تتجسد على الأرجح من خلال مزيد من الخفض في قيمة الليرة”.
يتحكم قانون العرض والطلب بشكل عام في أسواق صرف العملات، فعندما يزداد الطلب على الدولار من دون وجود معروض، يرتفع سعر صرف الدولار. وبالتالي، تنخفض قيمة الليرة التي يتم تبادلها مقابل تلك الدولارات.
اندفاع جماعي نحو الدولار
أفاد المستورد الرئيسي للمواد الغذائية، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، أن شركته سارعت لشراء الدولار من السوق بعد استلام المبلغ بالليرة. وبحسب الدكتور ناصر السعيدي: “إذا اندفع الجميع في الوقت نفسه، وهو ما يحدث على الأرجح، فسيؤدي ذلك إلى تحريك سعر صرف الليرة”.
ورأى المستشار السابق في وزارة المالية، هنري شاول، لفوربس الشرق الأوسط. أنّ “الحجم يعدّ كبيرًا مقارنة بمستوى المعاملات اليومية في السوق”، وأشار إلى أن زيادة كمية المعروض من الليرة يضغط على قيمتها ويزيد من التضخم.
جدير بالذكر أن سعر صرف الليرة قد انخفض بأكثر من 30٪ منذ أن بدأ البنك المركزي في سداد هذه الالتزامات لمستوردي الأغذية، حيث تم تداولها عند مستوى منخفض بلغ نحو 21,100 ليرة لبنانية للدولار في 13 أكتوبر/تشرين الأول.
في الوقت نفسه، بلغ التضخم في لبنان نحو 144٪ على أساس سنوي في سبتمبر/أيلول، بحسب إدارة الإحصاء المركزية.
أقر نعمة أنه على الرغم من أن سداد فواتير الدولار بالعملة المحلية سيؤثر سلبًا على العملة الوطنية، إلا أن سداد الديون بالدولار قد يعني انخفاض احتياطيات البنك المركزي الشحيحة بالفعل، مما يؤدي إلى انخفاض قيمة الليرة في المستقبل والتي ترتبط باحتياطيات العملات الأجنبية.
لكنّ المتحدث باسم مصرف لبنان نفى أن تكون آلية السداد قد أثرت على قيمة الليرة، وأبلغ فوربس الشرق الأوسط أن الانخفاض في القيمة يرتبط بالتطورات الأمنية والسياسية.
على النقيض من هذا التصريح، استمرت قيمة الليرة في الانخفاض في اليوم الذي أعطى فيه البرلمان ثقته للحكومة الجديدة وخطة الإنقاذ، التي يفترض أن تشكّل حدثًا إيجابيًا.
لم يعلّق وزير الاقتصاد أمين سلام على الموضوع حتى الآن، رغم أن فوربس الشرق الأوسط تقدمت بطلبات عديدة للتعليق، حيث إن المدفوعات تمت خلال فترة ولايته.
سداد.. لكن مع خسائر
سدد مصرف لبنان مستحقاته الدولارية بالليرة بسعر صرف أقل من سعر السوق المطروح للمقيمين، نقلًا عن البحصلي والمستورد الرئيسي. كذلك، قام مصرف لبنان بتحويلات مصرفية للمستوردين في الوقت الذي كانت فيه الودائع بالليرة العالقة في البنوك التجارية اللبنانية أقل من قيمتها النقدية.
فرضت البنوك حدودًا صارمة على كمية السيولة التي يمكن سحبها، في ظل محاولات ضبط رؤوس الأموال غير الرسمية في لبنان. بهذا، أدى الحد من السحوبات النقدية بالليرة إلى خفض قيمة الودائع والشيكات بالليرة، والتي يتم تداولها الآن بخصم 10٪.
أصبح الوصول إلى النقد بالليرة صعبًا، لدرجة أن المودعين أصبحوا يكتبون شيكات على حساباتهم بالليرة ويبيعونها في السوق المحلية بنسبة 90٪ من قيمتها. على سبيل المثال، يمكن للمودعين حاليًا كتابة شيك بقيمة 105 ملايين ليرة لبنانية (5 آلاف دولار أمريكي) وصرفه في السوق مقابل 94.5 مليون ليرة لبنانية (4500 دولار أمريكي).
قال مستورد المواد الغذائية الذي رفض الكشف عن هويته: “نحن نحصل على أقل من 80 سنتًا من كل دولار مستحق” إذ نقف فيما بين تلقي قيمة الدولار بسعر أقل من سعر السوق إلى جانب خسارة 10٪ في قيمة الليرة العالقة في الحسابات المصرفية.
الحفاظ على الاحتياطيات
غير أنّ المتحدث باسم مصرف لبنان لفت إلى أنّ سبب عدم الدفع بالدولار هو الحفاظ على احتياطيات الدولار الإلزامية لدى البنك المركزي، والتي تشكل نحو 14٪ من الودائع التي يجب على البنوك التجارية إيداعها لدى مصرف لبنان.
وأضاف المتحدث باسم المركزي: “لا يجوز لمصرف لبنان استخدام هذه الأموال بشكل قانوني”. ومع ذلك، قال البحصلي إن البنك كان يتعين عليه حساب واردات الدعم هذه قبل الموافقة على فواتيرها.
وعلّق عازار لفوربس الشرق الأوسط بالقول: ” عندما يقدم أحد البنوك المركزية التزامًا ماليًا ثم لا يفي بالتزاماته، فإن هذا يقوّض مصداقيته بشكل خطير ويقوض الثقة بالنظام المالي”.
تبلغ التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية نحو 70 مليار دولار، مقابل احتياطيات قدرها 13 مليار دولار، وفقًا لتقديرات بنك جولدمان ساكس.
وهذا يعني أن البنك المركزي لديه نحو 57 مليار دولار من صافي الاحتياطيات الدولية السلبية، وهو ما يعكس عدم قدرته على تغطية أكثر من 80٪ من التزاماته بالعملة الأجنبية بالدولار.
تظهر الميزانية العمومية لمصرف لبنان أن البنك يمتلك نحو 16.73 مليار دولار من الذهب و19.5 مليار دولار من الأصول الأجنبية حتى نهاية أغسطس/آب.
وتشمل هذه الأصول الاحتياطيات الإلزامية ونحو 5 مليارات دولار أخرى من سندات اليوروبوند اللبنانية – قروض للحكومة بالعملة الأجنبية – تخلف لبنان عن سدادها.
برنامج الدعم الفاشل
واجه برنامج دعم سلة الغذاء انتقادات واسعة النطاق بسبب فشله في وقف الزيادة في تكلفة المواد الغذائية. وقال نعمة في تغريدة على تويتر إن بعض أسعار المواد الغذائية المدعومة تضاعفت منذ أن بدأت الدولة بدعم السلع، حيث كان التجار يبيعونها بسعر غير مدعوم.
بالإضافة إلى ذلك، شوهدت البضائع المدعومة المستوردة إلى لبنان على أرفف محلات البقالة في الخارج، حسبما قال نعمة في مارس/آذار، حيث قام التجار ببيع هذه البضائع مرة أخرى في وقت لاحق خارج لبنان لتحقيق أسعار أعلى.
ويعمل لبنان بأكثر من أربعة أسعار صرف لعملته المحلية. وأوضح السعيدي أن هذه العملية تفتح الأبواب لفرص المراجحة، حيث يتم شراء المنتجات في الأسواق الأرخص ثم بيعها في الأسواق الغالية، بحيث يستفيد التجار من هذه العملية ويلحق الضرر بالمودعين وبالاقتصاد.
وقال إن برنامج السلة الغذائية “أفاد التجار على حساب الجميع”.
وردد شاول آراء سعيدي، مضيفًا أن خطة السداد هي “صفقة مالية أخرى تفيد المستوردين من جيب الشعب”.
العين الاخبارية