يُكافح رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، في سبيل استرضاء السعودية ونيل تعاطفها. تصرّفات الرجل مؤخراً، أي منذ عاد لبنان، توحي، ومن دون أي لبس، بعدم الإتزان. تصوّروا أن يذهب رئيس حكومة لمقاطعة وزير في حكومته لمجرّد أن عبّر الأخير عن رأيه، أو لمجرّد أن رئيسه عاقدٌ العزم على عدم التسبّب بالمزيد من “إغضاب دولة”، يتّفق المحلّلون على أنها تمارس عدواناً سياسياً واضح الأوصاف بحق لبنان.
يرفض رئيس الحكومة إلى حينه التواصل، ولو هاتفياً أو شفهياً، مع وزير الإعلام جورج قرداحي. في الواقع يتجنّب حضوره، وهو السبب الذي يدفعه أساساً إلى رفض الدعوة إلى جلسة لمجلس الوزراء. الأخير قال وكرّر مقولته الداعية للتواصل مع رئيسه للإتفاق على قرار “تخريج” للأزمة التي افتعلتها السعودية مع لبنان. جورج قرداحي مستعدٌ لأي مخرج يحفظ كرامة لبنان وينهي الأزمة ويعيد فصول العلاقة إلى سابق عهدها. ماذا كان ردّ رئيس الحكومة؟ مارس المزيد من التجاهل بحق وزير الإعلام الذي اختاره هو للوزارة. حاصره كمثل حصار السعودية للبنان، وساوى نفسه به وربط مصيره بمصيره، ثم بلغ مستوى رفض وساطة أحد رجالات الدولة لتنسيق لقاء بين الجانبين للإتفاق على مخرج! ما يهمّ ميقاتي ينحصر فقط بعدم إغضاب السعودية أو إرباك “رفاقه” في ملتقى رؤساء الحكومات السابقين.
أولوية رئيس حكومة لبنان القادم على صهوة الإصلاح وانتشال هذا البلد المريض من القعر، إسترضاء السعودية ولو كلّف ذلك مخاصمة نصف اللبنانيين! أولويته الإسترضاء دون التنقيب عن هفوات تضمّنها قرار “المقاطعة والحصار” لاستخدامها في سياسة “كسر الحصار” ولو بشكل ديبلوماسي، كحال ما جرى حين كسر القرار السعودي باغتيال سعد الحريري سياسياً من خلال اختطافه! كان يمكن لميقاتي الإستفادة من “النموذج القطري” الذي استخدم في مواجهة “المقاطعة الخليجية” وحقّق النجاح، لكنه تجاهل ذلك أيضاً. كان يمكن لرئيس حكومة لبنان الحائز على غالبية أصوات الكتل في البرلمان، أن يتفحّص ويمحّص جيداً مضمون قرار الحصار – العقابي، وعلى الأكيد كان ليعثر في بنوده على “خلل” يستفيد منه في صون حكومته وحماية نفسه من التحوّل إلى سعد – 2، أي قلب المعركة باتجاه المُبادر وليس الضحية، لكن نجيب ميقاتي لا يريد! ولا يريد هنا، مربوطةٌ بعدة أسباب لها صلة بوضعيته في الإنتخابات المقبلة! دولة الرئيس نجيب ميقاتي يفكّر إنتخابياً في الأزمة الراهنة. لا يريد المناورة أو ممارسة أي دور سلبي تجاه المملكة مخافة أن تقلب الشارع السنّي عليه وتطيح بإمكانية التفرّد في زعامة الطائفة السنّية، مستغلاً حالة التراجع التي تُعانيها الحريرية السياسية. نجيب ميقاتي يريد دفع الثمن، ولو كلّفه ذلك التسديد من جيبه، حتى لا تقضي السعودية على مستقبله السياسي!
ونجيب ميقاتي مُربَك بالفعل! محيطه يردّد منذ أن افتعلت السعودية الأزمة، عبارةً واحدة: لا نريد تكرار تجربة سعد مع نجيب. المقصود ألا تسقط السعودية الحرم على نجيب ميقاتي، وتتمكن من إحراقه. هذا الكلام الرفيع يوحي بخطورةٍ في مكان، كأن السعودية تريد أخذ السنة في جريرة واحدة والإنتقام منهم تدريجياً لتفريغهم من العناصر القوية تسهيلاً لاختيار “زلمتها” الجديد المنصاع بالكامل لإدارتها السياسية. كأنها جعلت من السنّة أسرى لطموحاتها التوسّعية، كأنهم ما عادوا ذات قرار مستقل، كما ينشدون.
عملياً، وقع خيار نجيب ميقاتي على سلسلة عوامل يريد من خلالها استعطاف المملكة، دون أن يقدّر أن هذا التصرّف العبثي قد يكبّده خسائر داخلية بالجملة. وكمثل ما فعل وزير الخارجية عبدالله بو حبيب لاستلحاق نفسه من تهوّر محمد بن سلمان، تسلّق منبر الرئاسة الثالثة بما يتضمّنه من ثقل سياسي، ونسج موقفاً هاجم فيه “حزب الله” ضمناً، واتهمه بالتعطيل رداً على قرار الحزب ب”الحشد” خلف جورج قرداحي. ما أراد قوله ميقاتي هنا، أنه يتعامل من ندّ إلى ندّ مع “حزب الله”، ويقف في وجهه، ويسعى إلى تكريس حضور السعودية، وتأمين الثمن الذي تطلبه. كيف تعاملت السعودية؟ بتجاهل أُضيف إلى تجاهل حضور ميقاتي في السراي منذ أن الّف، أي رئيس حكومة الدولة ذات السيادة الذي رُفض طلبه للقاء وزير خارجية في دولة أخرى يقولون أنها شقيقة!
والحزب هنا يقيس الأمور سياسياً من منظار أنه أكبر السياسيين سناً وحكمةً. يترك تصريحات ميقاتي ويتعامل معها بتجاهل، ويفتح خطوطه لإجراء اتصالات معه على بركة إنجاز حل ويجالسه باحثاً عن حلول، مترفّعاً عن الاستهداف، لا يقاطعه كما يفعل الميقاتي مع وزير إعلامه، ولا يخشى مثلاً إغضاب أي أحد، ولو أن ميقاتي دائم الخشية من تتسلّل مضامين مناقشاته الهاتفية مع الحزب إلى الخارج.
وحتى لا نقول الكثير، الحزب الذي تستهدفه السعودية في حصارها الحالي، بل تستهدف قلب الناس عليه وتبتغي من فصول تهورها اللبناني، السعي إلى عقاب جماعي لكافة أطياف الشعب وإحداث تغيير سياسي، يعمل على “إنتاج” علاج على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، لإدراكه بدقة المرحلة وطبيعتها، ولذلك يفاتح المعنيين بالأزمة من أجل إيجاد الترياق، من عون إلى ميقاتي إلى بري، مروراً ببنشعي ومكان إقامة قرداحي، في وقتٍ يتسكّع ميقاتي متموضعاً في خانةٍ واحدة: إسترضاء السعودية فقط، من دون وجود، ولو ضمانة واحدة، تؤكد له استعدادها للتراجع والإقلاع عن الأسلوب الإستعلائي الفوقي الإبتزازي الممارس بحق لبنان وشعبه، كمثل البعث برسائل قصيرة إلى هواتف اللبنانيين من الشيعة المقيمين في المملكة تهدّدهم بقرب مغادرتهم ديارها! أين ميقاتي من صون أبناء وطنه؟ هل يبتغي استرضاءهم أم أنهم حرف ناقص؟ في الواقع ماذا يفعل ميقاتي بالضبط تجاه وقف سياسة ابتزاز ناسه؟