كتبت مريم شيحا في ” اللواء”:
لم يكن مشهد أب ينقل أبناءه إلى المدرسة على ظهر الحمار، مجرّد تسلية على وسائل التواصل الاجتماعي. الصورة في رمزيتها تعبير مأساوي لما وصلت إليه أوضاع اللبنانيين في وطنهم، وخصوصاً أزمة النقل بوجوهها المتشعبة، سواء بفعل أزمة المحروقات وتداعياتها، أو بفعل غياب السياسات المتصلة بالطرقات وصيانتها، والبنى التحتية والجسور… نحن أمام أزمةٍ بـ «حًفَرٍ» متعددة.
خلال عشرينيات القرن التاسع عشر، كانت وسائل النقل العام موجودة، وكانت تتسم بالبساطة كالعربات التي تجرّها الخيول، بموازاة خطوط سكك الحديدية التي تتصل بسكة حديد الحجاز، مروراً بالسيارات القديمة والترامواي الذي دخل الخدمة في العاصمة بيروت عام 1907، وصولاً إلى استخدام الحافلات (الباصات) بموازاة سيارات النقل العمومية ذات اللون الأحمر الذي يميّزها عن السيارات العائلية ذات اللون الأسود.
يومها اعتبر الترامواي، الذي أُخترع عام 1881، وسيلة نقل عصرية لاعتماده على الطاقة الكهربائية ما أفسح المجال بربط المناطق التجارية في وسط بيروت التي كانت مجالاً سكنياً وثقلاً ديموغرافياً لأبناء العاصمة مع مناطق الضواحي السكنية الأقل كثافة، والتي أصبحت لاحقاً جزء لا يتجزأ من المجال الجغرافي للعاصمة، وذات ثقل ديموغرافي بعد أن أخذت موقعها التجاري على شرق المتوسط ودور مرفأ بيروت، وتحوّل وسط بيروت إلى وظيفة اقتصادية وخدماتية ومصرفية. في العام 1964 توقف العمل بترامواي بيروت بناء على قرار من الحكومة التي استبدلته بالحافلات، التي عملت على ربط بيروت بغيرها من المدن اللبنانية والمدن السورية، وبرز في هذا الإطار شركتان رئيسيتان تُقدمان خدمات نقل للمواطنين: الأولى الشركة اللبنانية للمواصلات، والثانية مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك.
كان لسنوات الحرب الأهلية، والعدوان الإسرائيلي على لبنان آثار مدمّرة على البنى التحتيّة من طرقات ومرافق وجسور، وعلى تجهيزات وآليات ومنشآت خطوط نقل السكك التي توقفت عن العمل وتوقف معها الربط بين مختلف المدن والبلدات اللبنانية. بعد اندلاع الحرب سنة 1975 توقفت القطارات نهائياً عن نقل البضائع والركاب، ولكن بقيت الباصات العامة تعمل بشكل متقطع في بعض المناطق اللبنانية، لتتوقف نهائياً لاحقاً نتيجة قِدمها وارتفاع كلفة صيانتها وذلك بسبب حربي التحرير والإلغاء سيئتي الذكر. بعد انتهاء الحرب، أقرّت الحكومة اللبنانية خطة النهوض الاقتصادي والعديد من المشاريع لإعادة إعمار لبنان بما فيها البنى التحتية ومن ضمنها مشروع تطوير النقل البري لمدينة بيروت الكبرى، لإعادة تطوير وتأهيل شبكة الطرق في العاصمة.
ترتكز سياسة النقل في لبنان في الاعتماد على وسائل النقل الفردية بشكل فوضوي وغياب أي مخطط توجيهي متكامل لمدينة بيروت وضواحيها، ما أدّى إلى اختناق شبكة المواصلات، وتزايد الإزدحامات بشكل غير مسبوق، وغالباً غير مبرر. وبحسب آخر إحصاءات حول أعداد السيارات الخاصة العاملة في لبنان بلغ عدد المسجل منها 1500000 آلية، كما أن أكثر من 85% من السيارات المسجلة يفوق عمرها السبع سنوات، ما يُشكل مصدر تلوث كبير للهواء، وأضراراً بالغة في الصحة العامة والبيئة، بسبب انعدام الرقابة وسوء الصيانة وعدم تقيّد عوادم السيارات بالمواصفات البيئية المطلوبة دولياً.
واقع الحال هذا، خير دليل على غياب السياسات، والأهم على استهتار الحكومات المتعاقبة بالمواطن وبالعاصمة والمناطق، عبر تغييب غير مبرر لخارطة طريق للنقل الحضري الذي سبق أن أعدّته المديرية العامة للأشغال وفق ما كشف سابقاً مديرها العام المهندس عبد الحفيظ القيسي، وهي عبارة عن خطة متكاملة ومنظمة لوسائل النقل من وإلى بيروت، تحترم السلامة العامة وتحدّ من فوضى الاختناقات المرورية، وكذلك استخدام حافلات صغيرة صديقة للبيئة تنقل الوافدين إلى داخل أحياء العاصمة المختلفة، وقد قُدرت كلفة هذا المشروع بـ 70 مليون دولار. المهم في وسط الانهيار الشامل الجاثم على صدر الوطن والمواطن، هل من جدوى للسؤال لماذا لا تُرسم استراتيجية واضحة لتنظيم النقل العام في لبنان كما هو الحال في دول العالم؟ وأين هي مكامن الضعف المستعصية عن حل مشكلة هذا القطاع حتى وصل اللبناني إلى زمن «التوكتوك»؟
الواقع صعب وصادم. مشاكل هذا القطاع ينجم عنها آثاراً سلبية على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والصحية والاجتماعية والبيئية، فما يجري هو أن إدارة هذا قطاع قائمة على حسابات حزبية، مذهبية، طائفية ومناطقية، وكلها أدّت إلى تقاسم مغانمه بلا حسيب ولا رقيب. كما أن كل السياسات والمعالجات الرسمية التي اعتُمدت في التعامل مع قطاع النقل كانت آنية وترقيعية، ولم تقارب الحلول المتوسطة والبعيدة والهادفة إلى الحفاظ على تطويره المستدام بمرونة، نظراً لارتباطه بوتيرة النمو الديموغرافي في بيروت وضواحيها بسبب مركزية دورها في استقبال جميع الوافدين إليها من شتى المناطق أو حتى داخل الحيز الجغرافي المديني ذاته.
ما زاد من تفاقم أزمة النقل والانتقال، هو غياب وسائل النقل العام الذي ظهرت آثاره على اللبنانيين عامة وعلى الموظفين منهم في المؤسسات الرسمية بشكل خاص في ظل أزمة الانهيار المالي والاقتصادي والحياتي في مختلف أشكاله، بحيث أنه وفي ظل تفاقم أزمة المحروقات، وارتفاع أسعارها شُلّت حركة نقل وانتقال الموظفين في المؤسسات العامة والخاصة على السواء، وتعطّل حضورهم قسراً إلى أعمالهم. لذلك يبدو أن أي مشروع عام لا يحقّق نفعاً شخصياً للقيّمين عليه (نهب، مصالح سياسية، زبائنية..) وبالتالي سطواً وقحاً على المال العام، يكون مصيره الأدراج والكثير الكثير من الأكاذيب والتبريرات المضلّلة، وهي سمة واضحة للفساد الذي أوصل الدولة إلى حالة الانهيار المالي. لطالما كان هدف أركان السلطة يتجاوز الصالح العام ما أوصل إلى هذا الواقع البائس على كل المستويات.
كما في كل الأزمات، إن التأخّر في عدم معالجة أزمة النقل العام المستعصية عن سابق إصرار وتصميم، على الرغم من وجود العديد من الدراسات المنجزة من قبل وزارة النقل ومجلس الإنماء والإعمار ومصلحة السكك الحديد والنقل ودراسات أخصائيين مستقلين، يُعيق تحقيق أهداف التنمية المستدامة وانعكاساتها الإيجابية على الاقتصاد والصحة العامة والسلامة المرورية والاستدامة البيئية خاصة. وهذا إن حصل، وأغلب الظن ليس مع طبقة سياسية أوصلت إلى هذه الحال، سيشكّل احدى الوسائل المهمة لتخفيف الأعباء عن المواطنين المنهوبين جماعياً في وطنهم ومستقبلهم.