بعد عشرات السنوات من الإستقرار، دخل لبنان في نفق اقتصادي مظلم ظهر إلى العيان بعد أحداث ١٧ تشرين أول ٢٠١٩. ففي حين كانت التقارير الاقتصادية الدولية تحذر بقوة من إنهيار الليرة، كان أركان السلطة يؤكدون على وجود جهات تقف خلف هذه التقارير، يشيرون إلى وجود مخطط لضرب الإقتصاد اللبناني، ويصرون على أن “الليرة بخير”.
بعد عامين، أضحى كل شيء واضحا. الليرة ليست بخير، واللبنانيون أيضا، وكذلك الإقتصاد والبلد ككل. وفي هذا الإطار، يعرض موقع Leb Economy مع الخبيرين الإقتصاديين باتريك مارديني وبلال علامة حقيقة الأزمة والتغيرات التي أحدثتها في الإقتصاد اللبناني وكيفية النجاة من شرك الإنهيار الذي لم يسلم منه شيء.
مارديني: اللبنانيون استشعروا الأزمة
قبل تشرين أول ٢٠١٩
لفت الخبير الإقتصادي باتريك مارديني في حديث لموقعنا Leb Economy إلى أن ” أحداث 17 تشرين الأول 2019 كانت استشعار لبداية الأزمة الإقتصادية، ففي تموز 2019 بدأ يختلف سعر صرف الليرة في السوق السوداء عن سعر صرف الليرة الرسمي، وبدأت المصارف بتقييد سحب الأموال. وفي ظل هذا الوضع السيء، شعر الناس بأن الليرة بدأت تتزعزع وأثار ما يحصل في السوق السوداء وفي المصارف ريبتهم، فخرجوا إلى الشوارع في تظاهرات إحتجاجا”.
واعتبر مارديني ان “شعور الناس كان بمكانه، إذ أن الواقع الاقتصادي انهار بشكل كامل بعدها، ما يؤكد صحة شعور اللبنانيين المسبق بحتمية الإنهيار المقبل الذي دخلنا فيه قبل الثورة، ففي عام ٢٠١٩ كان النمو الاقتصادي سلبيا، وبالتالي كان لبنان في أزمة، انفلشت بشكل كبير في عامي 2020 و2021”.
وأوضح مارديني “أن المتغيرات التي طرأت بين عامي 2019 و2021 على الإقتصاد اللبناني كانت كبيرة، فالليرة اللبنانية خسرت أكثر من 95% من قيمتها، ومع انهيار سعر صرفها تهاوت القدرات الشرائية للبنانيين، وسجل الإقتصاد نمواً سلبياً وصغُر حجمه، وأقفلت الشركات وسرّحت موظفيها”.
وأشار إلى أن “في ظل المتغيرات السابقة، أضحى التضخّم مفرطاً ونشأت أزمة معيشية خانقة”.
ولفت مارديني الى أن “القطاع المصرفي خلال العامين المنصرمين انهار بالكامل، وأصبح هناك قيودا على سحوبات الدولار لتتوقف بعدها كلياً، ليفسح المجال فيما بعد لسحب الودائع بالدولار على سعر صرف 3900 ليرة، الأمر الذي اعتبره المودعون مجحفاً لا سيما بعد ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء الى 20 ألف ليرة”.
وأشار مارديني إلى أنه “خلال العامين المنصرمين، طُرحت مطالب كبيرة بالإصلاح، حيث أُقرّت قوانين مهمة جداً في مجلس النواب كقانون الشراء العام الذي أتى كنتيجة لإنتفاضة الشعب اللبناني، فبعد شبهات الفساد الكبيرة التي طالت مناقصات الدولة، كان من الضروري أن تتحسّن الحوكمة والشفافية في هذا الموضوع”. وشدد مارديني إنه على “رغم عدم السير بالقانون حتى الآن، إلا أنه سيكون من اكبر الإصلاحات التي ستتم في السنوات القادمة اذا أراد لبنان النهوض”.
وأوضح أن “هناك الكثير من الحديث في البلد عن الإصلاح النقدي ، وعن مصير سعر صرف الليرة بعد أن كان هناك نظام سعر صرف ثابت قبل عام 2019، وانتقلنا حاليا الى سعر صرف عائم توالت خلاله انهيارات الليرة ، ما يسلط الضوء على ضرورة تنفيذ إجراءات في مجال الإصلاح النقدي وفي مقدمها انشاء مجلس نقد الذي من شأنه وقف انهيار سعر الصرف الليرة”.
علامة: لإعادة رسم دور
لبنان الاقتصادي إقليميًا ودوليًا
من جهته، رأى الخبير الاقتصادي بلال علامة في حديث لموقعنا Leb Economy أن هناك تغيرات بنيوية طرأت على الاقتصاد اللبناني، الذي كان يتمتع بهيكلية جيدة تتميز بتوزيع متوازن بدءًا من الصناعة والزراعة وصولاً الى تجارة الترانزيت والسياحة والخدمات المصرفية في الفترة التي سبقت الحرب الأهلية، وهي الفترة عينها التي وصلت خلالها الليرة الى أوج قوتها، غير أن هذه القطاعات فقدت قدرتها التنافسية شيئًا فشيئًا، حتى آلت الى ما آلت اليه اليوم.
وفي إشارة الى الأزمة غير المسبوقة التي يعيشها لبنان اليوم، أكد علامة أن التدهور الهائل بسعر العملة جعل كلفة الانتاج عالية جدًا، وبالتالي أدى الى فقدان الميزة التنافسية لكافة القطاعات بشكل كامل، وشدد على أن لبنان لا يمكن أن يعود الى مكانته الاقتصادية الا من خلال اعادة رسم دوره بشكل يتضمن اعادة هيكلة عناصر الانتاج، باستغلال عناصر القوة المتاحة وإعادة فرضها إقليميًا ودوليًا.
ولفت علامة الى أن عملية إعادة الهيكلة هذه يجب أن تتم بالتوازي بين الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات، كما يجب أن ترتكز على طاقات لبنان البشرية والاستثمار في إقتصاد المعرفة وتقنيات الإتصالات الحديثة والانترنت والداتا، إضافة الى حل مشكلة القطاع المصرفي الذي يعاني اليوم من كبوة فادحة اذا ما لم تُحل سيبقى لبنان في أسفل السلم نسبةً للاقتصاديات العالمية.
وأكد علامة أن هذه التغيرات هي وليدة مراحل عديدة، حيث بدأ الاقتصاد اللبناني بخسارة عناصره تباعًا بعد الحرب الأهلية، بعد أن فشلت الدولة في تأمين البنى التحتية والمقومات وعناصر الانتاج اللازمة، وهي عوامل أثرت على البنية الهيكلية للاقتصاد اللبناني، حتى دخلنا في ما يُسمى “فقدان القطاعات للميزة التنافسية” في وقت كانت اقتصاديات الدول المحيطة تتطور بشكل كبير.
ورأى أنه في ظل التطور الذي حصل في المنطقة المحيطة، لم يتمكن لبنان من مجاراه ما يُسمى “الاقتصاد القياسي والنوعي” المطلوب لاعادته الى الأسواق العربية والعالمية بإمكانات عالية.
واستذكر علامة المطبات السياسية والأمنية التي شهدها لبنان خلال الفترات السابقة، ومن بينها اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والذي تبعه انقسام سياسي عامودي، تلته وزارات الهدر والفساد التي أساءت لمقومات الاقتصاد بدل اصلاحها، كما حصل في الكهرباء والنقل، الأمر الذي سجّل خسارة إضافية للبنان.