الإختبار الأول للحكومة في مستهلّ مشوارها كاد أن يكون مُكلفاً. إنفجرت الأمور بين الوزراء على نحوٍ مريب، وعمّ الإنشقاق أحوالهم. الوزراء من حديثي النعمة الوزارية والذين لم يكونوا قد دخلوا بعد في تجارب شخصية تصلح لإذابة “الجليد” بينهم، تحولوا إلى معسكرين متناقضين داخل مجلس الوزراء. معسكرٌ يقف إلى جانب رئيس الجمهورية ميشال عون، في صون موقع المحقق العدلي في تفجير مرفأ بيروت طارق البيطار، وآخرٌ يقف على يساره، ويطالب بإزالته. ما بلغه الأمر خلال ساعات، أنه أحدث شرخاً عنيفاً يصعب محوه، إلى حدٍ أحيلت الحكومة إلى تقاعد سياسي مبكر، والفترة الفاصلة عن الأسبوع المقبل مُحالةٌ بدورها إلى التدقيق وبتّ أمر ، ليس مستقبل القاضي “المُرتاب به” وإنما الحكومة بأسرها.
في أول اشتباك سياسي من نوعه داخل الحكومة، ثبت أن ما يتحكّم بها ليس سوى سلسلة تفاهمات حكوميّة هشّة مُعرّضة للتلف السياسي المُبكر. الأخطر، أن “الثلث المعطل” الذي زعم عدم وجوده ضمن التركيبة، تبيّن أنه متوفّر وبقوّة. التهديد الذي اُسمع إلى الوزراء من قبل الثنائي الشيعي + وزراء تيّار “المردة”، حمل مفاعيل “الثلث” ، الذي في إمكانه القضاء على مستقبل الحكومة بأسرها، وبالتالي مستقبل رئيسها الذي لا يريد، وعلى مقربة من “انتخابات الربيع”، أن يتورّط بسقطةٍ من نوع “إنهاء” الحكومة في أول شهر بعيد ولادتها.
عملياً، القاضي بيطار هو مجرد عنوان للقصة، عنوان لاشتباكٍ عنيف يحمل استقطاباً أعنف. في المضمون ثمة قضايا خلافية أعمق بكثير، وتتّصل بحضور الحكومة في الملفات، سواء الطارئة أو الأساسية، والتي تبيّن وبعد أقلّ من شهر على نيلها الثقة، أنها غارقة في محاكاة التفاصيل دون الولوج إلى صلب الموضوع.
صحيحٌ أن رئاسة الجمهورية قرّرت وضع يدها على “الإنزلاق السريع” في عمل الحكومة وتأجيل الجلسة التي كان مقرّرٌ عقدها بالأمس في قصر بعبدا، والذي، يستخلص مطلعون على موقف “السراي” بأنه قرارٌ “تسبّب بضربةٍ قوية لمبدأ الإئتلاف الذي نشأت الحكومة وفقه، و بقاعدة التضامن الوزاري بين الأعضاء”، لكن من زاوية أخرى، كشف عورة ميقاتي الذي دأب على محاولة إنكارها أو إخفاء معالمها أمام العامّة. فرئيس الحكومة الجديدة، أنكر سابقاً وجود “ثلث معطل” داخل الحكومة، وزعم أن “تشكيلته” تكنوقراط صرف مؤلفة من أخصائيين “شبه” مستقلين وغير تابعين لأحزاب. “حوصة” الثلاثاء في قصر بعبدا أثبتت زيف هذا الإدعاء. سريعاً، أعاد الوزراء التموضع ضمن دوائرهم الحزبية الضيقة و شكّلوا “ثلثاً” مؤثراً متعدد الألوان، حتى الوزراء الذين قيل أنهم يحظون بـ”مونة فرنسية” ، إنصرفوا للتقوقع ضمن البوطقة الطائفية ذاتها، ولم يخرجوا إطلاقاً عن تأثير مرجعياتهم الطائفية.
ميقاتي بهذه الحالة كان كمثل “راعٍ” يقف ضمن قطيع هائج بسبب “ثعلب”. طوال جلسة الثلاثاء، كان همّه كيف يخفّف من وقع كلام هذا الوزير أو ذاك، وانشغل في التواصل لتهدئة الوزراء، وعقب الجلسة كان يقفز باتصالاته من مرجعٍ حزبي إلى آخر على أمل نسج التهدئة، وهي مساعٍ انضمّ إليها لاحقاً أكثر من “وسيط” في الجمهورية. وقد ميّز ميقاتي نفسه باتخاذ موقع حيادي جداً. نأى بنفسه كلياً عن الصراع المحتدم على إقالة البيطار، وكان متميّزاً عن وزراء اختارهم بنفسه بعناية. هؤلاء، قلّة منهم تُعدّ على الأصابع تموضعت إلى جانب ميقاتي، والباقون انصرفوا إلى أحزابهم.
بعيد الجلسة، كان همّ ميقاتي الوحيد، كيفية إنقاذ ما يحدث وبالتالي حكومته، وتمرير جلسة الأربعاء (التي طارت أمس) بأقلّ أضرار ممكنة، وكان البحث جارياً حول “التعويذة” التي يُمكن من خلالها إنهاء ذيول الإشتباك من أصله، وحين لم يتمكّن أحد من العثور عليها، قُضي الأمر بأن تأجّلت الجلسة إلى موعد لاحق.
الفرنسيون الذين يُتهمون “بأبوّتهم” للحكومة العتيدة، انصرفوا عنها كمثل ما فعلوا حين تألّفت. معلومات “ليبانون ديبايت” تُشير إلى أن باريس وعلى عكس ما راج ضمن مجالس سياسية خاصة بالأمس، نأت بنفسها عن الصراع المحتدم داخل مجلس الوزراء ولم تتدخّل في محاولة “فك الإشتباك” بين التيارات المتناحرة ، إنما ذهبت صوب التشدّد في اتّباع “مسار قضائي مستقل” في قضية المرفأ. ينقل مطلعون على الموقف الفرنسي بأن فرنسا “مصدومة” من عملية “التموضع” داخل مجلس الوزراء والتي ظهرت على إثر جلسة الثلاثاء. كانت فرنسا تميل إلى الكلام الذي أُبلغ من جانب ميقاتي وآخرين حول “استقلالية” معظم الوزراء و نقاوتهم من “لوثة” الأحزاب وعدم توفّر “ثلث ضامن” في الحكومة.
بالأمس، ثبت لدى باريس وعلى نحوٍ قاطع بأن ما قيل ونُقل إليها لم يكن دقيقاً إن لم نقل كذباً. عند هذه النقطة فضّلت عدم التدخل، ومن تواصل مع “المرجعية الفرنسية” في الداخل، فهم بأن باريس غير معنية بما يجري، ما يعنيها فقط “فصل السياسة عن القضاء”، ليكون ميقاتي بالتالي قد خسر “الرعاية الفرنسية الداخلية” لحكومته.