لن يأتيَ أحد بجديد لو حمَّل المنظومة الحاكمة، بقديم وجوهها الدافعة الى الاشمئزاز وتلك المستحدَثة المثيرة للابتسام، مسؤوليةَ العتمة الشاملة التي ضربت لبنان.
وفي الواقع فإننا لم نجد لبنانياً تفاجأ أو أصيب بالذهول جراء استهوال الصحافة المحلية والأجنبية خروج معامل الكهرباء الأساسية عن الخدمة. “عادي” بلغة جيل الشباب. أي غير مثير للاهتمام قطعٌ شامل لكهرباء الدولة، بعدما تحولت مسانداً للمولدات قبل ان تصير أثراً بعد عين. و”عادي” أن “يستجِرَّ” وزير الطاقة الإسمرار وعيون المعجبين الى جسده في “السبورتنغ” ظهر السبت فيما العرق يتصبّب من نزلاء المستشفيات.
أخطر ما استطاعت المنظومة الفاسدة ايصال الناس اليه هو التسليم بأن “حاكْمَك لاكْمَك” وبأن قدر اللبنانيين معاناة الذل والهوان، فيما يبقى المرتكبون في كراسيهم وترتفع رايات الشكر والعرفان لمازوت ايران وعروض عبد اللهيان.
وأسوأ من الاعتياد على نمط عيش لا تتوافر فيه أدنى مقوّمات الحياة هو الانقلاب على سلَّم القيم والثوابت في السياسة والاجتماع والأخلاق. وهكذا تُضْحي سرقة الودائع منسوبة الى مجهول، وعودتُها لأصحابها شيئاً يضاهي الأحلام، فيما يتمكن الثلاثي الماسي (منظومة سياسية ومصارف ومصرف لبنان)، ليس من فرض الحاكم “الجليل” عضواً في لجنة التفاوض مع صندوق النقد فحسب، بل أيضاً من اطلاق يد “الزعران” حماة رئيس جمعية المصارف المبجلة الشأن بضرب المتظاهرين قصد الايذاء، لمجرد المطالبة أمام منزله باسترداد ما استولت عليه العصابة بالتكافل والتضامن و”على عينك يا تاجر” ويا حضرات السادة الرؤساء في “النادي” وساحة النجمة وبعبدا سواء بسواء.
ولو اقتصر أمر تعويد الناس على خسارة جنى العمر لقالوا: ما بقي من العمر أكثر مما مضى. اكفونا شرّكم و”عفا الله عمن نهب”. لكن دعوا أبناءنا يعيشون في ظل دولة قانون، يعاقَب فيها السارق بدل ان يوصف بـ”الشاطر”، ويُطرد من المعادلة بدل ان يترقى، ويشَهَّر به بدل ان يُبَخَّر له في الإعلام.
بيد أن المنظومة لا تريد الاكتفاء بـ”تشحيد” الناس الملح وبطاقة تموين، بل إخضاعهم كالنعاج وسوقهم الى حتفهم مسلوبي حق الصراخ والاعتراض.
قمع ثورة 17 تشرين كان بداية الطريق. اعلانٌ فجٌ بأن لا شيء سيتغير في التركيبة القائمة وأن دون المحاولة عيوناً ستطفأ وخراباً ودماء، وانفجار 4 آب أتى ليكرس سياسة الاستهتار والازدراء وتعطيل المؤسسات. وهكذا تُطبِق المنظومة على آخر حصن يلجأ إليه الناس حين يُفتَأتُ على حقوقهم أو يتعرضون للظلم أو ترتكب في حقهم جريمة تستحق العقاب. وما تحوُّلُ المدَّعى عليهم في تفجير النيترات قضاةً فقهاء واصطفافُ أركان المنظومة وراء المتآمرين على القاضي البيطار إلا دليل الى وصول الانقلاب على الدستور الى منتهاه. وخلاصته: نحن نفعل ما نشاء. نتحكم بالسلطة ونطوّع الاحتجاجات ونحوّل القضاء نادلاً عند الأقوياء، ومن لا يعجبه فلينضم الى مئات آلاف طالبي الجوازات والتأشيرات.
للفت الانتباه وليس للمقارنات: أقرت الحكومة الاسبانية قبل أيام بطاقة “ثقافة” بقيمة 400 يورو لكل من بلغ الـ18 ليشتري بها كتباً خلال عام. عاش الاسبان حربهم الأهلية، ثم خضعوا لديكتاتورية فرانكو. وهم منذ تخلصوا من الفاشية معتمدين الديموقراطية ودولة القانون يعانون مشاكل اندماج وانفصال، لكن أصغر قاض لديهم يستطيع جلب أكبر رأس الى القضاء. فتخيلوا لو يستطيع البيطار! وتخيلوا حينها كيف تتغير البطاقات!