يُقال إن الديبلوماسية هي فن إيصال الرسائل من دون تصريح ومعرفة ما يجب أن لا تقوله، وفي هذا الإطار لا يمكن أن نحكم على عمل الديبلوماسيين بناءً فقط على ما يصرّحون به، وإنما علينا ربط أي حركة يقومون بها، باللحظة السياسيّة والتوقيت والشكل والمضمون لندرك ما هي تلك الرسائل التي يودون إيصالها بصمت.
وفي هذا الإطار، فإذا ما أردنا فهم مضمون زيارة وزير خارجية الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران حسين أمير عبد اللهيان إلى لبنان، باعتبار أنها تحمل معانٍ أبعد من الذي يصرّح به الرجل، يجب التوقف عند اللحظة السياسيّة والتوقيت، والذي أرادته طهران ما بعد تشكيل الحكومة وإعطائها الثقة بأسبوعين، وشكلاً عند استقبال الوزير الإيراني، للفصائل الفلسطينيّة في لبنان، وأن نعطف هذين الأمرين على تصريحات الوزير، لندرك نتيجةً، وهي أن الزيارة تحمل في طياتها أربع رسائل مهمّة وواضحة.
الرسالة الأولى، موجّهة للجميع مفادها أن الجمهوريّة الإسلاميّة كانت جزءًا لا يتجزأ من تشكيل هذه الحكومة بالإتفاق مع الفرنسيين، وبالتالي الإيحاء وكأنه لا يُمكن أن يستقرّ الوضع في لبنان أو أن تصطلح الأمور فيه سوى عن طريقٍ تمرّ بطهران، التي تقول عبر هذه الرسالة للجميع: لا يتوهّمن أحدٌ منكم أن باستطاعته أن يفعل أي شيء في لبنان من دون التنسيق معنا أو رغماً عنا. والديل هو هذه الحكومة التي جهد الفرنسي على مدى سنتين لتأليفها ولم يفلح إلاّ بعد اتفاقه معنا.
الرسالة الثانية، موجّهة إلى المجتمع الدولي، في توقيتٍ نشهد فيه زحمة وفود ديبلوماسيّة تأتي إلى لبنان، ومفاد هذه الرسالة أنه لا يمكن أن يأتي أي حلّ في لبنان من خلال هذا المجتمع، فإيران موجودةٌ هنا على المسرح اللبناني الداخلي أيضاً. من المُمكن أن ينبري أحدهم ليقول لماذا هذا العناء؟ فالجميع يُدرك أن طهران موجودة هنا بحكم وجود “حزب الله” وبالتالي هذا لزوم ما لا يلزم؟ إلاّ أن الجواب هو: أنه في ظلّ الزحف الدولي إلى لبنان وكثافة الوفود، وجدت الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، أنه من الضروري توجيه رسالة واضحة إلى هذا المجتمع الدولي، بأن زحف وفوده غير المنقطع النظير إلى لبنان، لن يفيده بشيء، لأن الحلّ لا يُمكن أن يأتي سوى من خلالها.
الرسالة الثالثة، موجّهة إلى البيئة الشيعيّة، التي تشعر في مكانٍ ما، أنه لم يكن هناك من فضلٍ لإيران في تأليف الحكومة، خصوصاً وأن هذه البيئة ترى يوماً بعد يوم وفوداً فرنسيّة، أميركيّة، ألمانيّة، إيطاليّة إلخ تأتي إلى لبنان ما بعد التأليف. كما تريد الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران أن تُشعر هذه البيئة، أن هناك توازناً في المشهد الدولي، وأن إيران، لاعب كسائر اللاعبين الآخرين، لديها وجودها وثقلها، أي بمختصر العبارة “رسالة معنويات” لا أكثر ولا أقل.
الرسالة الرابعة، موجّهة بشكل مزدوج إلى الشعب اللبناني، أو لنقل أكثريّة هذا الشعب التي تؤمن باستقلال وسيادة وحريّة لبنان، كما إلى الدول العربيّة، وتحديداً المملكة العربيّة السعوديّة، بأن لبنان جزءٌ لا يتجزأ من “محور الممانعة”، ومنصّة متقدّمة لهذا المحور وسيبقى كذلك، وبالتالي لا أحد يخطئ العنوان فهذا هو عنوان لبنان. وفي هذا الإطار أتى تصريح الوزير الإيراني من وزارة الخارجيّة واستقباله الفصائل الفلسطينيّة.
في المحصّلة، وفي سياق هذه الرسائل الأربع، فقد أتت هذه الزيارة، والتي فعلياً “لا تُقدّم ولا تؤخّر” على صعيد توفير حلول للأزمات التي يتخبّط فيها المواطن وينوء تحت أثقالها في حياته اليوميّة. ويمكن أن نقول بمختصر العبارة، أن طهران أتت إلى بيروت، لمجرّد أن تقول “نحن هنا، ولا يحاولنّ أحد استغيابنا أو القول إننا غير موجودين في لبنان، فنحن من يقرّر هنا”. وبناءً عليه، على كل مواطن لبناني أن يُمعن التفكير ليأخذ موقفاً واضحاً من هذه الزيارة بشكل مبدئي، وموقفاً عاماً بالنسبة لتوجّهاته وانتماءاته وخياراته السياسيّة، لأن المُتاح أمامنا اليوم هو إمّا الإستمرار على نفس النهج والبقاء في ما نحن فيه، أو تغيير تموضعاتنا السياسيّة والذهاب باتجاه شيء ما شبيه بـDubai Expo.