طوني عيسى – الجمهورية
يلتزم الأميركيون جانب الصمت، هذه الأيام، في ما يتعلق بالملف اللبناني. وهذا ما يفتح الباب للتحليلات. ولكن، خلف جدار الصمت، توحي لغة الإشارات والرسائل التي يوجّهونها، عبر الأقنية الديبلوماسية، بأنّ هناك الكثير من الكلام قد قالوه في الكواليس، وسيقولونه في الوقت المناسب.
تستغرب الأوساط الديبلوماسية المواكبة للموقف الأميركي، استنتاج البعض أنّ إدارة بايدن «استقالت» من الشرق الأوسط، وتركت لبنان وسواه للنفوذ الإيراني. وفي تقديرها أنّ هذا الانطباع متسرِّع. فإدارة بايدن ليست أقل تمسكاً بحضور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط من إدارة ترامب، وهي لن تتخلّى لإيران عن لبنان أو أي دولة في المنطقة.
وعلى الأرجح، الأميركيون يقومون اليوم برمي كمية هائلة من القنابل الدخانية في فضاء الشرق الأوسط، ما يؤدي إلى حجب الرؤية ويصعّب مهمَّة الخصم في المواجهة. لكن الصورة واضحة بالنسبة إليهم: لا سيطرة إيرانية على الشرق الأوسط وحدود إسرائيل الشمالية وشاطئ المتوسط. وفي المقابل، لا مجال لمقاتلة إيران وتكبُّد الخسائر من أجل أي كان.
لقد قرَّرت واشنطن تغيير أسلوبها. هي تريد وضع حدّ للأثمان التي تدفعها في الشرق الأوسط، والتفرُّغ لمواجهات دولية أوسع. وما جرى في أفغانستان كان نموذجاً. ولذلك، تطلب من الحلفاء الشرق أوسطيين أن يتحمّلوا مسؤوليات المواجهة بأنفسهم، وأن يدفعوا ما يقتضي دفعه من أثمان عند الحاجة.
وفي هذا السياق، ستواصل واشنطن دعم الحكومة اللبنانية بحيث تتمكن من الحفاظ على استقرار البلد. لكنها تعتبر أنّ الخروج من الأزمة يجب أن يتمّ بأيدي اللبنانيين أنفسهم. وهي إذ قدَّمت الدعم للشعب اللبناني وقوى التغيير على مدى السنوات الأخيرة، ستواصل المهمَّة، لكن على هذه القوى نفسها- ولا أحد سواها- أن تخوض المعركة لتحقيق التغيير.
ومن هذا المنظار، أبلغ الأميركيون رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بأنّ موقفهم الحقيقي من الحكومة لا يتعلق بالأشخاص، ولا بتركيبة الحكومة نفسها، بل هو مرتبط بما ستقوم به فعلاً من خطوات إصلاحية.
وفي الترجمة، إنّ التعاطي مع حكومة ميقاتي سيكون شبيهاً بالتعاطي مع حكومة حسّان دياب التي أُعطيت مهلة 100 يوم لإثبات صدقيتها في الوفاء بالالتزامات، لكنها فشلت. والأميركيون يمنحون اليوم حكومة ميقاتي مهلة مماثلة. ولذلك، هم يلتزمون جانب التحفظ والحذر في إطلاق المواقف، وينتظرون التصرفات على الأرض ليبنوا على الشيء مقتضاه.
ولكن، هل تتوقع واشنطن أن تلتزم الحكومة الميقاتية فعلاً بالتعهدات التي قطعتها على نفسها، والتي تشبه التعهدات التي سبق أن قطعتها حكومة دياب؟
الأوساط المطلعة على الموقف الأميركي لا تبدي تفاؤلاً في هذا المجال، وتسأل: هل سيوافق «حزب الله» فعلاً على التزام خطوات إصلاحية ستؤدي إلى خسارته المكاسب التي يجنيها من خلال إمساكه بمرافق الدولة؟ وهل له مصلحة بالقبول بشروط صندوق النقد الدولي التي تُلزم البلد بضوابط مالية ومصرفية ونقدية وإدارية بالغة الشفافية والدقَّة؟ وكيف سيوافق على مفاوضة هذا الصندوق الذي يعتبره أداة في أيدي الأميركيين؟
إذاً، الاعتقاد الراجح في الدوائر المعنية في واشنطن هو أنّ حكومة ميقاتي ستلقى مصير الحكومة السابقة في امتحان الإصلاح والخروج من قبضة إيران. كما أنّها ستواصل تعطيل المفاوضات مع إسرائيل حول الحدود البحرية والخلاف على مخزونات الغاز.
ولكن، ما مغزى تشجيع السفيرة الأميركية دوروثي شيا لبنان على فتح خطوط الكهرباء والغاز إلى الأردن ومصر عبر سوريا، مع ما يعنيه ذلك من إشارات سياسية؟ وكيف يمكن اعتبار هذه الخطوة ردّاً على بواخر المحروقات الإيرانية التي ترسو أيضاً في سوريا وتُنقل بالصهاريج إلى لبنان؟
الأوساط تقول، إنّ لا أهمية سياسية لمسألة البواخر، ولا داعي لافتعال مواجهة في سبيل تعطيلها. والأهم هو المبادرة السياسية بإعطاء دورٍ للرئيس بشار الأسد في سوريا، بدعم روسي وتغطية عربية، يؤدي إلى إضعاف إيران هناك. ولذلك، يتمّ تشجيع العرب على احتضانه مجدداً وإعادة المصالح الاقتصادية والسياسية مع دمشق، بما في ذلك تطبيع العلاقة مع بيروت.
وهذا الأمر يقرأه بعض المتابعين بكثير من الاهتمام، ويرون أنّ لبنان ربما يقترب من أجواء العام 1991، عندما تمّ التوقيع على «معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق» مع دمشق. ويولون أهمية لعودة بعض قنوات النظام السوري مع لبنان إلى الحركة في الفترة الأخيرة.
فلبنان خسر فرصاً متتالية، وعلى مدى سنوات، لإثبات قدرته على إدارة نفسه بكامل الاستقلالية. وفي ظل وضعية الانهيار التي ربما يستفيد منها البعض، يُخشى أن يكون لبنان على وشك الاستسلام لإرادات القوى الإقليمية والدولية وصفقات قد تُبرم في ما بينها.
وقبل يومين، أخذ ميقاتي على عاتقه إطلاق الحوار الرسمي بين بيروت ودمشق، للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب هناك. وهذا التواصل لم يكن ليحصل لولا وجود تغطية إقليمية ودولية.
قد لا يعني ذلك بالضرورة استعادة الوصاية السورية على لبنان، بالشكل الذي كان قائماً قبل العام 2005، لكن هناك أشكالاً مختلفة من الوصايات يمكن أن تحظى بالتغطية الدولية والإقليمية، وفيها يكون لبنان ثمناً أو رشوةً لإمرار صفقة إقليمية كبرى. ولذلك، مهلة الـ100 يوم ستشكّل امتحاناً للحكومة، لأنّها ستوضح قدرة لبنان على الخروج من الأزمة من دون دفع الثمن.