هم تفنّنوا في القتل وهو تفنّن في الصبر لكن، على عتبة الشهر الخامس عشر لـ”اغتيال العاصمة” وسقوطه في بركة دماء صنعتها “دولتنا”، فرغ صبره واستراح وأصبح رقماً جديداً على لائحة ضحايا “النيترات” وانضمّ الى جو وكريستال وشربل وإيلي وجورج وهلا وأحمد وجوزف وجوزفين وسحر ورالف ونجيب ومثال ورامي… البارحة، قبل يومين، إنتقل الشاب إبراهيم حرب، ضحية “الدولة الساقطة”، الى جوار الربّ. وهم سيبقون جثثاً حيّة تتخبط إن شاء الله في جهنم الحمراء.
“كل شيء في الدنيا تعب إلا الموت فهو نهاية كل تعب”… هذا هو المرتجى الوحيد الذي يخفف من غليل الحاج مصطفى والحاجة إبتهاج على ابنهما إبراهيم. مات إبراهيم أو بالأصح قُتل. والقتلة ما زالوا “يهندسون” أسرار القتل ويعيقون مسار العدالة ويسحقون آخر الآمال بإمكانية الإعلان عن هوية القاتل. مات الشاب إبراهيم الذي ظفره يساوي أكبر رأسٍ في أعلى موقع. ومن لا يُصدق فليصغِ الى الوالدة المفجوعة إبتهاج وهي ترثي فلذة كبدها.
أقل من أسبوع وندخل في الشهر الخامس عشر على إنفجارٍ طيّر صواب العالم، وجعل من ليس له حتى قلب يرتعد. فليس بسيطاً ابداً ما حدث. ليس بسيطاً أبداً أن تُغتال عاصمة وينهمر الدم شلالات وتسقط البيوت على ناسها وتتطاير الجثث ويتشلع اللحم وتتبعثر العائلات وتموت الأم حزناً فوق جثة إبن وابنة ويسقط الوالد والأخ والإبن في متاهة القهر الأبدي. لم يكن بسيطاً أبداً ما واجهناه عصر يوم الرابع من آب. ليس سهلاً أن ننسى. ولن ننسى. وكأن إعلان وفاة الضحية إبراهيم حرب بعد معاناة شديدة وطويلة من إصابة طالته ذاك الغروب أعادت فتح كل الجروح دفعة واحدة. ولكن، هل عرفت “دولتنا” به وهو يتخبط 14 شهراً في سريره؟ وهل سرت ولو قشعريرة بسيطة في أبدان من يعملون ليل نهار لطمس حقيقة ما حصل أم ان الحجارة بلا قلب ولا ضمير وهم ليسوا إلا حجراً يابساً… يابساً؟
يا لهول ما يعيشونه
القاضي طارق البيطار كان في كل مرة يتحدث فيها عن التحقيق ينظر من شباكه، نحو السماء، وكأنه يرى ما يراه كل الأهالي الحزانى مردداً: يا لهول ما يعيشونه. هو شعر بهم أكثر من كل الآخرين واستخدم مطرقة العدل كرمى كل البائسين لكن هناك من يستمرون بالعبث بهم، بدماء الضحايا، وبأسى أهلهم، وبنا، وبكلِ وجع الشعب اللبناني. القاضي البيطار طالما قال وردد: لهؤلاء أعمل… لهؤلاء فقط… أعمل ليأخذ العدل مجراه. ويوم تبلغ هو رسمياً دعوى الردّ المقدمة لكف يده عن القضية تبلغ أهل الضحية ابراهيم حرب خبر وفاة ابنهم بعد معاناة مريرة شديدة. ارتاح ابراهيم. لكن ماذا عن أهل ابراهيم ورفاق ابراهيم واهل كل الضحايا الذين قضوا في تلك اللحظة، في اقل من لحظة، واهالي من يستمرون يتقلبون في أسرتهم مثل الطيور الذبيحة؟ ماذا عن صوت العدالة؟
يقال: أعطني قضاء أعطيك دولة. لكن حين يكون تجار الدولة أقوى من القضاء يُصبح الناس في مزرعة. ونحن في مزرعة مشرّعة على كل أكلة اللحوم.
مازن هو شقيق الضحية. وشقيقته هي دانيا. وابراهيم كان رئة البيت، فهما تزوجا وهو عقد خطبته على داليا التي تعمل ممرضة في المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت يوم 6 تشرين الأول من العام 2019. كان سعيداً جداً ويحلم. كان يحلم وداليا بـ”بكرا” وفجأة تجمّد كل العمر وأصبح “أمس” هو الحلم و”بكرا” هو الحزن. 14 شهراً لم ينتبه فيها أحد الى أوجاع بيت مصطفى حرب ولا الى كل الآلام التي عاشها الشاب الذي كان طموحاً وبات مشلوحاً على سرير بارد. إصابته أتت، بحسب ما قال صهره، زوج شقيقته دانيا هشام باشا، في رأسه. وبقي ثلاثة أشهر في العناية الفائقة. ونُقل بعدها الى مؤسسة المفتي حسن خالد الإجتماعية ليتابع علاجه. وذات يوم عاد واستفاق. فتح العينين. فتح الفاه لكنه عجز عن الكلام. ظنّ أهله ومحبوه أنه “خلّص” ونجا والأيام قد تكون كفيلة ليستعيد “تفاعله” مع المحيط. لكنه استمرّ يذوب ويذوب الى ان توقف قبل أسبوع عن تناول الطعام. أجريت له كل الفحوصات لكنه ظلّ يتخبط ألماً في سريره وحين لم يعد قادراً على الإحتمال “فلّ”.
هل عرِفوا بابراهيم؟
إبراهيم يعمل، أو بالأصح كان يعمل قبل غروب الرابع من آب محاسباً. كان دوامه قد انتهى للتوّ. وكان قد جهّز منزله ليتزوج ويبني أسرة ويُنجب أطفالاً. لكنه، منذ ذاك الحين، وهو يعيش جلجلته ويبني موقعاً في الجنة. رحل هو واستفاق اللبنانيون، أو من نسي من اللبنانيين وهم ينتظرون في طوابير الذل، من جديد الى مشهدية “الإغتيال” الذي تعرضوا جميعاً له. وراحوا يسترجعون الصور الهستيرية التي هزّت العالم ولم تهز رمش مسؤول. عائلة الشاب الضحية في ذهول “فالغالي راح” وهو من كان منسياً في غرفة شاحبة في مستشفى رزق في بيروت. لم ينتبه إليه أحد طوال 14 شهراً وكم في أقبية المستشفيات وفي الغرف الشاهدة على كمّ الوجع بعد، من ضحايا يعانون. تُرى هل كان يعرف مسؤول، أي مسؤول، بوجود ابراهيم مصطفى حرب ينازع؟ نشك.
هناك 7000 جريح. ثمة جرحى تعافوا وثمة جرحى يموتون في اليوم القصير ألف مرة. ولا أحد اهتم أو يبالي أو يكترث. إبراهيم حرب كان ليموت وحيداً لولا انتشار خبره بالصدفة. هو هكذا كان يذهب الى عمله ويعود من عمله ولا يطلّ عبر السوشال ميديا إلا لماماً. وطالما قال له الأصدقاء لبعدِهِ عن الفيسبوك: “اشتقنالك” فكان يجيبهم: “هيك بتشتاقولي أكتر”. أهله مثله. شقيقه لا يحب الظهور. شقيقته تكتفي بترداد: “يا حياتي”. والدته. والده… الكلّ رأوه وهو يتعذب، وتعذبوا لعذابه، والموت أصبح له راحة. لكن، يا ويل القتلة. أحد أصدقائه قال: “الظلم أبشع إحساس يمكن أن يشعر به إنسان. والظلم ظلمات يوم القيامة”. لكن، سرعان ما يعود ويستطرد: “الظالمون لا يمتون الى الإنسانية بصلة لهذا قد لا يكونون يعيشون العذاب على الأرض لكن يا ويلهم يوم القيامة”. تُرى هل يفكر من قتل 220 ضحية وأكثر وآخرهم (وليس آخراً) إبراهيم حرب أنهم لن يخلدوا؟
إبراهيم حرب… ضحيّة جديدة. هو عنوان لكثيرين لكنه جلجلة لابراهيم وأهل ابراهيم وخطيبة ابراهيم. وكما يقال الجمرة لا تحرق إلا مكانها. لكن، موت ابراهيم، جدّد “الجمرات”، اشعلها، رمى عليها البنزين، فعامت من جديد آلام الكثيرين. رولا الطبش، نائبة بيروت، حيث انتمى وعاش وأصيب ومات ابراهيم، نعته على السوشال ميديا: “أنعي وابكي واحداً من أسرة العمل زميلاً موظفاً في مكتبي لم نعرف منه غير التفاني والإخلاص والمحبة”… وختمت: “نعمل من أجل العدالة لروحك وأرواح كل ضحايا تفجير المرفأ”. لا بُدّ أن يكون ابراهيم قد ابتسم في نعشه لأول مرة من زمان بعدما سمع عن “عدالة” البعض الممجوجة.
هو إبن الأشرفية، تحديداً إبن شارع بيضون في الأشرفية، وشارع بيضون الذي يحضن جامع بيضون شاهد على العيش المسيحي والمسلم في قلب بيروت. هو هناك، في جامع بيضون، صُليّ عليه. ووُري الثرى في جبانة الباشورة. وعلى ورقة النعي كُتب: “بمزيد من الرضى والتسليم بمشيئة الله وقدره ننعي وفاة المغفور له…”. لكن، ماذا عن مشيئة الزلم الذين يدّعون أنهم يتحركون باسم الله؟ فهل الله شاء أن تغتال عاصمة ويتشلع الأطفال والكبار وتذرف الأمهات الدم بدل الدموع؟
مات إبراهيم. إرتاح. وأهله “المسالمون” مثله بكوا إبناً كان يعمل من الفجر الى النجر ليبني مستقبلاً لكنهم لم يرتاحوا. ولن يرتاحوا. مئات العائلات اللبنانية لن ترتاح. والعين بالعين والسنّ بالسن إذا لم يكن على هذه الأرض ففي يوم القيامة.