كتب نقولا ناصيف في “الاخبار”:
أدخلت قرارات الشبهة التي اتخذها المحقق العدلي طارق البيطار الافرقاء جميعاً، كما الشارع اللبناني المدمّى بانفجار مرفأ بيروت، في الحلبة الرومانية. بات يقتضي ان يخرج منها مَن يدفع ثمناً باهظاً، وإن كبش محرقة حتى لا توازي صدمة قرارات المحقق العدلي طارق بيطار، إلا صدمة ما ستؤول اليه المرحلة الجديدة من التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، وهو على مقربة اقل من شهر على حصوله قبل سنة. ذلك هو الامتحان الفعلي الذي يواجهه الرئيس السابق لمحكمة جنايات بيروت، مذ قال لعائلته عندما عهد اليه في مهمته في 19 شباط المنصرم، ان عليها ان تتوقع اي تهديد بما في ذلك استهدافه الشخصي بالذات.
تُدرج وطأة صدمة قرارات بيطار في بضعة معطيات، منها:
1 ـ انطلاقه من شبهة. ليس فيها قرار ظني او قرار اتهامي، ولا تعني تالياً ادانة. توصّل اليها في حصيلة ما انتهت اليه تحقيقاته في ضوء الاستجوابات التي اجراها، كما التي سيجريها لاحقاً، واحتمال الادعاء على المستجوَبين أمامه. وضع قطار الملاحقة القانونية على سكته بلا أخطاء، او تجاوز الصلاحيات، او اهمال ما يقتضي ان يكون في دائرة الشبهة. استماعه الى مَن يعدّهم مشتبهاً بهم من غير الضروري ان يؤول الى اجراء قضائي بالادعاء، او اتخاذه قراراً بتوقيف اي منهم.
الشبهة المحدّدة في قرارات البيطار، في ضوء تحقيقاته، جنحة مبنية على القصد الاحتمالي. الثابت في نتائج التحقيقات تلك مع الموقوفين الحاليين، والذين اوقفوا واطلقوا، لا تتعدى الاهمال والتقصير في انتظار تكشّف الحقائق الفعلية، المرتبطة بجريمة احضار الشحنة الضخمة من نيترات الامونيوم الى مرفأ بيروت. لمّا تزل هذه مبهمة، يشوبها الغموض، في انتظار التقارير الاميركية والفرنسية المفترض انها ستفضي الى حقائق ابعد من الحريق الذي تسبب بالانفجار: من اتى بالشحنة تلك، ومن اجل ارسالها الى مَن، واسباب رسوها في المرفأ؟
2 ـ وازن في الشبهة بين اربعة مستويات من المسؤوليات المترتبة، على قدم المساواة، دونما تجاهله اياً منها او ادارة الظهر لها سلفاً. شملت السياسي والاداري والعسكري والامني والقضائي، بلا انتقائية او اعتباطية او استنسابية. تجنّب بذلك خطأ جسيماً ارتكبه سلفه القاضي فادي صوان، عندما تجاهل توجيه الشبهة الى قضاة، قاصراً اياها على سياسيين وعسكريين. حينذاك أُخذ على صوان تعمّده اهمال مسؤولية قضاة، واكبوا مراحل وصول شحنات نيترات الامونيوم الى مرفأ بيروت واستقرارها فيه سنوات، وأجروا تحقيقات واتخذوا اجراءات، بعضها لم يكن بعيداً من تحميلهم مسؤوليات مباشرة عن انفجار الشحنة تلك. إغفال صوان مسؤولية القضاء كانت احدى نقاط مقتل مهمته، استدركها البيطار عندما توجّه الى النيابة العامة التمييزية مسمّياً القاضيين المعنيين بالشبهة، كي يصير الى التحقيق معهما وفق ما ينص عليه قانون اصول المحاكمات الجزائية عن جرائم القضاة، في المواد من 344 الى 354، وآلية ملاحقتهم. ليس للمحقق العدلي التحقيق معهم، بل احالتهم الى النيابة العامة التمييزية لتعيين هيئات خاصة بذلك.
3 ـ تسلّم المحقق العدلي ملفاً لا يكتفي بوزره الانساني والقانوني والسياسي فحسب، بل بكمّ من الاخطاء نجمت عما آلت اليه مهمة سلفه. من بين الاخطاء الثقيلة المحمولة، الموقوفون الاولون الـ18 بناء على امر النيابة العامة التمييزية قبل ان يضيف اليهم صوان 11 موقوفاً آخرين، بدءاً بالعامل السوري في حرم المرفأ صعوداً الى الضباط والمديرين العامين، خرج اخيراً عدد منهم فيما ينتظر قريباً خروج آخرين.
بدت التوقيفات تلك محاولة لامتصاص صدمة انفجار المرفأ، من غير ان تؤول الى نتائج قانونية فعلية تحدّد المسؤوليات. اضف الاسلوب الذي خاطب به صوان رئيس مجلس النواب نبيه برّي في تشرين الثاني الماضي، عندما دعاه الى رفع الحصانة عن نواب، ومحاكمة وزراء سابقين بتهمة الضلوع في انفجار المرفأ. ما لم يُراعِ فيه المحقق العدلي السلف اسلوب المخاطبة والآليات القانونية في ادعاءاته، اعتمدها الخلف من خلال توجّهه الى النيابة العامة التمييزية، كي تتولى عبر وزارة العدل مخاطبة مجلس النواب. الامر نفسه بالنسبة الى ادعاء صوان حينذاك على المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا، دونما طلب الإذن بذلك من رئاسة مجلس الوزراء التي تتبع لها المديرية العامة لأمن الدولة. لأن الادعاء على صليبا قائم، عمد البيطار الى تصحيح الخطأ بقوننته. بذلك تفادى عقبة الطعن في ممارسته صلاحياته وتجاوز صلاحيات سواه.
ما سيكون حتمياً ومعلوماً ان وزيرة العدل ماري كلود نجم التي تسلمت امس طلب رفع الحصانة عن النواب الثلاثة، ستوقّعه وتحيله للفور الى رئاسة مجلس النواب.
4 ـ توقيت اصدار البيطار قراراته (2 تموز)، بدا اكثر جدوى وملاءمة من الخطوة نفسها التي اقدم عليها سلفه قبل تسعة اشهر. الى الآليات القانونية التي اتبعها، لاقاه المناخان السياسي والشعبي على ابواب الذكرى الاولى لانفجار المرفأ الشهر المقبل. بعدما كان دياب رفض حضور صوان الى السرايا لاستجوابه وتلطّى بطائفته، تجنّب في الايام المنصرمة اي اعتراض او تحفظ، خصوصاً بعدما كشف البيطار انه سيستمع الى رئيس الحكومة المستقيلة، وتحدّث عن موعد مقرّر لذلك دونما الكشف عنه. سارع النواب الثلاثة المعنيون الى تأكيد استعدادهم المثول امام المحقق العدلي قبل نزع الحصانة عنهم، فيما اثنان منهم طعنا حينذاك بقرار صوان واستعجلا نزع الملف منه بدعوى الارتياب المشروع. لم يصر الى تحريض الشارع السنّي على البيطار على نحو ما حصل لصوان في تشرين الثاني المنصرم، عندما زار الرئيس سعد الحريري دياب في السرايا للمرة الاولى منذ ترؤسه الحكومة، ورسم من حوله خطاً احمر كما لو ان الطائفة السنّية هي المدعوة الى المثول امام المحقق العدلي السابق. بإزاء ما يجري منذ ايام، يبدو السنّة في استرخاء تام. لم يتأخر رئيس مجلس النواب عن تأكيد تمسكه بتطبيق القانون، في انتظار وصول طلب رفع الحصانة عن النواب الثلاثة الى البرلمان عملاً بالاصول المتبعة.
اما ما سيكون امام البيطار، في ضوء استجواباته المقرّرة والاقتناعات التي سيكوّنها منها، فهو احد الخيارات الثلاثة المنصوص عليها في قانون اصول المحاكمات الجزائية: ترك المستجوَب، او توقيع سند اقامة مع تدابير رقابة قضائية، او التوقيف.
ما يمكن عدّه ملح مائدته، موقف الخارج سواء المعني بالتعاون مع البيطار من خلال الاستنابات التي وجهها الاخير اليه، او من خلال التقارير التي اعدتها اجهزة امنية فرنسية واميركية، سُلّم بعضها اليه والبعض الآخر يحتاج الى قليل الى الوقت. ناهيك بالموقف الغربي العام الذي نظر باشمئزاز وغضب الى ما افضى اليه الانفجار المدمّر، من غير ان يظهر طوال سنة متهم فيه، وتحميله الطبقة السياسية مسؤوليته المضاعفة المواكبة لسلسلة الانهيارات المتتالية في البلاد.
5 ـ مثول النواب الثلاثة المعنيين امام المحقق العدلي قبل جلسة رفع الحصانة عنهم، يعفي مجلس النواب من عقدها وإن تسلم طلب ذلك. يصبح انعقاد الجلسة غير ذي جدوى، ما داموا مثلوا سلفاً بإرادتهم، وتنازلوا عن حصانتهم النيابية من تلقائهم. وهو ما افصحوا عنه مذ اخذوا علماً بقرارات القاضي من وسائل الاعلام، قبل تبلغهم اياها رسمياً. يتفادى البرلمان بذلك جدلاً عقيماً في موسم انتخابي بدأ.
على ان موقف النواب الثلاثة – كما الموقف المتوقّع من دياب عند استماع البيطار اليه وتلقيه دفوعه – يعكس الى حدّ بعيد، خلافاً لما حدث قبل تسعة اشهر، محاولة استيعاب صدمة المحقق العدلي، دونما الوقوف في طريقها واعتراضها والقفز من فوقها، وتالياً التجرؤ عليه. قبل شهر من 4 آب، في التوقيت الصائب اليوم، بات الشارع المدمّى بذلك الانفجار، والرأي العام اللبناني كما المجتمع الدولي، شهود التحوّل الجديد ومواكبيه مستنفَرين جميعاً لجبه اي مسعى لاعطاب هذا المسار.