في ظلّ “الجمود” السياسيّ المتواصل، والذي يتوقّع كثيرون، أو ربما “يتمنّون”، أن “تخرقه” حركة رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري بعد عودته إلى بيروت، خطفت الأنظار خلال عطلة نهاية الأسبوع، الإجراءات “النوعيّة” التي اتّخذها المحقّق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، والتي أطلق من خلالها مسارًا قانونيًا جديدًا في التحقيقات.
تزامنت هذه الإجراءات مع ذكرى مرور 11 شهرًا على الانفجار المروّع الذي لم يُمحَ بعد من ذاكرة اللبنانيّين، والذي حفر عميقًا في وجدانهم، بعدما أسفر عن أكثر من 200 شهيد وآلاف الجرحى، وغيّر وجه مدينتهم بالكامل، وهو ما أعطاها “رمزيّة” مُضاعَفة، أقلّه بالنسبة إلى ذوي الضحايا الذين دعوا لإسقاط كلّ “الحصانات”، بمُعزَلٍ عن طبيعتها.
واكتسبت خطوات البيطار، الذي يعتزم استجواب كبار المسؤولين، من سياسيّين وعسكريّين وأمنيّين، وفق ما يؤكد، أهمّية استثنائيّة، لأنّ الاعتقاد السائد أنّ الذكرى السنوية الأولى للانفجار الآثم ستأتي دون حدّ أدنى من المحاسبة، علمًا أنّ الطبقة السياسيّة كانت وعدت بـ”إنجاز” التحقيقات وتحديد المسؤوليات خلال خمسة أيام فقط من وقوع “الكارثة”!
“احتفاء مبكّر”؟!
كما كلّ شيء، انقسمت الآراء حيال خطوات القاضي البيطار وإجراءاته المستجِدّة، فثمّة من بالغ في “التهليل” بها، لحدّ اعتبارها “انتصارًا” للعدالة، وثمّة من ذهب لحدّ اعتبار خطوات الرجل بمثابة “زلزال سياسيّ”، مع أنّ الأمر لم يتجاوز لغاية الآن الادّعاء على البعض، وطلب استجواب البعض الآخر كشهود، لا أكثر ولا أقلّ، ووفقًا للمبدأ المعروف في القاموس القضائي والقانوني، والقائم على أنّ “المتّهم بريء حتى تثبت إدانته”.
في مقابل هذا الرأي “المتفائل” بشدّة، ثمّة رأي آخر، مستند إلى التجارب التاريخيّة ربما، يميل أكثر نحو “التشاؤم”، باعتبار أنّ المسار الذي أطلقه البيطار، سبقه إليه “سلفه” القاضي فادي صوّان، مع بعض الاختلاف في “التكتيك” ربما، بعيدًا عن “الشعبويّة” التي أوقع القاضي السابق نفسه بها، وفق ما يقول منتقدوه، وبالتالي فإنّ شيئًا لا يضمن أن تفضي تجربة البيطار إلى نتيجة مغايرة لتلك التي خلص إليها صوان في السابق.
من هنا، يرى هذا الفريق أنّ “الاحتفالات” التي عمّت بعض الأوساط بقرارات البيطار سابقة لأوانها، شكلاً ومضمونًا، علمًا أنّ هناك من اعتبر أنّ الادّعاءات والاستجوابات تبقى “منقوصة”، طالما أنّها “محصورة” ببعض الشخصيات من الصفّ “الثاني” لا “الأول”، إن جاز التعبير، وتستثني كبار المسؤولين الذين تدلّ كلّ المعطيات أنّهم “كانوا يعلمون” مثلهم مثل غيرهم، ولو أنّهم يحتمون بـ”حصانات شاملة”، على ما يقول بعض القانونيّين.
“معركة طويلة”
ما سبق يدلّ على أنّ “المعركة” القانونيّة لا تزال “طويلة” رغم كلّ شيء، ورغم أنّ الانفجار الذي يتذكّره اللبنانيون كما لو أنّه حصل البارحة، يقترب من ذكراه السنوية الأولى، من دون أن تسفر التحقيقات عمليًا عن شيءٍ يُذكَر، وهو ما دفع منظّمات حقوقيّة دوليّة أصلاً إلى رفع الصوت في الآونة الأخيرة، طلبًا لتحقيق دوليّ نزيه وشفّاف، قد لا ينجح المحقّق العدليّ في تلبية مقتضياته، حتى لو توافرت الإرادة الفعليّة لديه.
ولعلّ فتح معركة “الحصانات والأذونات” في الساعات الماضية يدلّ على هذا المنحى، فحتى لو أنّ بعض المعنيّين سارعوا إلى إعلان “استعدادهم للمثول فورًا” أمام القضاء، فيما فضّل آخرون “التريّث”، من أجل المزيد من “الدراسة القانونيّة”، يخشى كثيرون أن يتكرّر “سيناريو التسييس” نفسه، فيطيح بمبدأ التحقيق بالكامل، علمًا أنّ هناك من لا يزال يصرّ على أنّ كلّ الإجراءات ستبقى “حبرًا على ورق” في أحسن الأحوال.
ولا يبدو الحديث عن “ازدواجيّة واستثناءات” معزولًا في السياق والزمان، ولو أنّ بعض المدافعين عن خطوات المحقق العدلي، يلفتون إلى أنّ ما صدر ليس سوى البداية، وأنّ التقدّم في التحقيقات قد يوسّع دائرة “الاستجوابات”، ويشيرون إلى أنّ القاضي يحرص على “تبكيل” ملفّه، ولذلك فهو “حصر” الشبهات بمن ثبُت لديه باليقين والدلائل، بأنّهم “علموا” بوجود نيترات الأمونيوم قبل “اليوم المشؤوم” في الرابع من آب.
لم ينسَ أحد من اللبنانيين، سواء كان من ذوي الضحايا أم لا، تلك اللحظة “المنحوسة” يوم الرابع من آب، اللحظة التي لا يزال كثيرون يعيشون “صدمتهم” في يوميّاتهم، مع ما أثارته من “نقزة” يصعب تجاوزها. لكنّ “الغصّة” لا تزال موجودة، “غصّة” قد لا تنجح “المحاسبة” في محوها، لكنّها لا شكّ ستكون بمثابة “فشّة خلق” يبدو اللبنانيون محرومين عنها، رغم كلّ ما قيل ويُقال، وحتى إثبات العكس!
لبنان 24