كتبت رنى سعرتي في “الجمهورية”:
تتشارك المصارف مع مصرف لبنان في عملية مزدوجة تهدف الى امتصاص السيولة النقدية بالليرة من السوق بالتزامن مع التوقعات بضَخ المغتربين اللبنانيين في الشهرين المقبلين حوالى 3 مليارات دولار في السوق. تتمّ عملية امتصاص السيولة بالليرة إمّا عبر منصة sayrafa التي تبيع الدولارات بسعر صرف 12 الف ليرة للتجار والمستوردين شرط تأمين المبلغ نقداً بالليرة، وإمّا من خلال مطالبة المصارف الشركات بتأمين قيمة رواتب واجور موظفيها نقداً من اجل تحويلها الى حساباتهم المصرفية.
في المقابل، قامت المصارف قبَيل البدء بتطبيق التعميم 158 الذي يُجيز لحوالى 800 الف مودع سحب 400 دولار نقداً وما يوازيها على سعر صرف الـ12 الف بالليرة، بتخفيض سقوف السحب المحددة للسحب النقدي بالليرة وفقاً للتعميم 151 على سعر صرف الـ3900 ليرة، الى حوالى النصف شهرياً لكل المستفيدين من هذا التعميم. وبالتالي، انّ العميل الذي قرر عدم الاستفادة من التعميم 158 سيكون عاجزاً عن سحب نفس قيمة الاموال التي كان يسحبها على سعر صرف الـ3900 ليرة، ما قد يدفعه الى اعادة النظر بإمكانية استفادته فقط من التعميم 158 والاكتفاء بـ400 دولار شهرياً و2 مليون و400 ليرة نقداً و2 مليون و400 ألف اخرى يمكن استخدامها فقط لإتمام عمليات الشراء بالبطاقات الائتمانية.
سيؤدّي امتصاص الليرة والتقنين في حجم السحوبات النقدية بالليرة المتاحة من قبل المصارف، الى دفع المستفيدين من التعميم 158 الى عدم تخزين الـ400 دولار التي يحصلون عليها نقداً شهرياً واضطرارهم لبيعها في السوق من أجل تغطية كلفة نفقاتهم الشهرية، خصوصاً مع رفع الدعم إمّا كاملاً أو جزئياً عن كل السلع الاساسية وغير الاساسية، من دواء ومحروقات وكهرباء وسلع غذائية، والذي سيؤدي الى مضاعفة معدل الإنفاق الأسَري الشهري.
وفي حال نجحت تلك العملية، وصحّت التقديرات حول إنفاق المغتربين، فإنّ التداعيات يجب ان تكون ايجابية ولو بصورة مؤقتة، على سعر صرف الليرة في السوق السوداء، لأنّ الطلب على الدولار سيتراجع من قبل التجار والمستوردين الذين توجّهوا نحو sayrafa بمعدل يبلغ حوالى 20 مليون دولار اسبوعياً لحجم التداولات فيها، ومن قبل الافراد الذي بدأوا الاستفادة من التعميم 158 والذين إمّا ينوون تخزين تلك الدولارات او اعادة بيعها في السوق.
ولكن رغم كلّ تلك الهندسات المالية والترقيعات النقدية، لا يمكن لمنصة sayrafa ان تستمرّ في العمل في ظلّ تثبيت سعر الصرف على الـ12 الف ليرة وقيام مصرف لبنان بتمويلها وليس العرض والطلب، بل انّ الطريقة الوحيدة التي يمكن ان تستمر بها المنصة هي من خلال السماح لسعر الصرف بالتغيّر بناءً على عامل العرض والطلب. ما يعني أنّ سعر الصرف سيكون عرضة للتغيّر عدة مرات يومياً. وإذا أراد مصرف لبنان التدخّل لضبط سعر الصرف، يمكنه القيام بذلك عن طريق بيع الدولارات عبر المنصة، رغم انّ تأثير تدخّله سيكون قصير الأجل.
وشدّد مصدر مالي دولي لـ«الجمهورية» على انّ مصرف لبنان لا يمكنه تحديد سعر الصرف من خلال تدخله في السوق او من خلال اصدار التعاميم. وانّ التوجّه سيكون عاجلاً أم آجلاً نحو تعويم سعر الصرف ورفع الدعم بشكل كامل لأنّ السلطة لا تملك خياراً آخر.
وقال: كان من الممكن تفادي كل البؤس والمعاناة التي يتعرّض لها اللبنانيون بوجود حكومة مستقلة مختصّة، بما في ذلك رئيس الوزراء، تُمنح صلاحيات استثنائية للتعامل وإدارة القضايا الاقتصادية والمالية.
اضاف: يتعيّن على صانعي السياسات في لبنان أن يفهموا أنّ السبيل الوحيد لخروج البلد من أزمته ولبدء استقرار اقتصاده ووضع خارطة طريق لتحقيق النمو الاقتصادي، هو من خلال الاتفاق على برنامج إنقاذ شامل يحظى بدعم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتطبيقه. لا توجد وسيلة أخرى. سيتولى صندوق النقد الدولي القيادة في قضايا الاقتصاد الكلي، والتنسيق مع البنك الدولي بشأن قضايا القطاع المالي. وسيتولى البنك الدولي القيادة في القضايا القطاعية. إنّ الإجراءات التي يتم تنفيذها خارج برنامج الإنقاذ هذا سيكون لها تأثير محدود إن وُجد، وستؤدي إلى مزيد من التشوهات الاقتصادية والمالية.
واشار الى انّ المؤسسات اللبنانية الحالية ومصرف لبنان ووزارة المالية غير قادرة على تصميم برنامج الانقاذ المطلوب، «لأنها ببساطة لا تمتلك المعرفة والخبرة ورأس المال البشري والقدرات لفهم قضايا الاقتصاد الكلي. ولو كانت تمتلك تلك المقوّمات، لَما وصلت البلاد الى الفوضى الاقتصادية والمالية التي تعيش فيها».
وشرح المسؤول المالي اّن برنامج الانقاذ بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي سيُبقي على بعض الدعم الموجّه، وسيقوم بتعديل الأجور للتعويض عن فقدان القدرة الشرائية، ولكنه سيتضمن أيضاً اجراءات لزيادة إيرادات الدولة وتقليص العجز المالي. وبالإضافة إلى تدابير الإصلاح الأخرى التي سيفرضها برنامج صندوق النقد الدولي، ستتم السيطرة على تضخّم المعروض النقدي، ما سيساعد على استقرار قيمة الليرة اللبنانية. ولفت الى انّ الاقتصاد لن يتعافى إذا لم تتم إعادة هيكلة النظام المصرفي. يمكن لكل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أخذ زمام المبادرة في مساعدة لبنان على إعادة هيكلة نظامه المصرفي. وسيحتاج لبنان أيضاً إلى إعادة هيكلة ديونه، وسيتعيّن القيام بذلك في سياق برنامج صندوق النقد الدولي.
وختم: لن يتمكن لبنان من معالجة مشاكله الاقتصادية والمالية بمفرده. ليتوقّف السياسيون عن تضييع الوقت وإلحاق البؤس والألم بالسكان يومياً. فكلما طال انتظارهم للتفاوض في شأن برنامج صندوق النقد الدولي، زادت إجراءات الاصلاح المطلوبة، صعوبة.