كنا إعتقدنا أنه بعدما أدلى الجميع بدلوهم، وأفرغوا ما في داخلهم من هواجس، وقالوا حقيقة ما يفكرّون به بينهم وبين أنفسهم، أن الأمور سائرة نحو الحلحلة وفكفكة العقد على قاعدة “ما لكم لكم وما لنا لنا”، وهذا ما يقوله الدستور وما يحدّده من صلاحيات لكل من رئيسي الجمهورية والحكومة في بلد مركّب وقائم على التوازنات وفصل السلطات وإعطاء كل ذي حق حقّه.
ففي كل مرّة يقترب الحلّ، نظريًا، نرى أن ثمة عوامل تطرأ وتستجد على الساحة فتعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وتنسف الجهود والمساعي التي تبذل في إطار تقريب وجهات النظر، وكانت آخر هذه المساعي مبادرة الرئيس نبيه بري الذي يمسك العصا من وسطها. فهو ليس مع أحد ضد أحد. لا يقف مع الرئيس عون على طريقة “عنزة ولو طارت”، ولا مع الرئيس الحريري على قاعدة “أنصر أخاك ظالمًا كان أم مظلومًا.
فمبادرة رئيس مجلس النواب تقوم على الجمع وليس على الطرح أو القسمة، وهو شعار متمسّك به على المستوى الوطني في شكل عام، ويحاول تطبيقه على المستوى الحكومي، لأنه يرى الأمور من زاوية مختلفة ومغايرة للزوايا التي من خلالها يقارب الآخرون الأزمة الحكومية.
فالرئيس بري يرى أن البلاد ذاهبة إلى الإنهيار الشامل، وأن لا مجال للبدء بمرحلة التعافي، حتى ولو كانت طويلة، إلا بتشكيل حكومة “الممكن” و”الضروري”، في الوقت الذي نرى فيه الأزمات تتوالد يومًا بعد يوم، وتضاف إلى الأزمات السابقة حتى أصبح لسان المواطن معلقًّا بالسقف لكثرة ما يُراكم على رأسه من هموم وويلات تبدأ بحجز أمواله في المصارف وتمرّ بإرتفاع جنوني بأسعار الدولار وتدهور دراماتيكي لقدرة الليرة اللبنانية الشرائية وصولًا إلى ما سينتج عن رفع الدعم وما يرافقه من تداعيات على أسعار السلع الغذائية والدواء والمحروقات، فضلًا عن الأفق المسدود بالنسبة إلى المستقبل المجهول.
كل هذا يأخذه الرئيس بري في الإعتبار، ويرى أنه إن لم تُشّكل الحكومة اليوم قبل الغد فإن الوضع ذاهب إلى أسوأ ما يمكن تصورّه، وأن الفرصة المتاحة اليوم بما هو ممكن قد يصبح مستحيلًا بعد فترة عندما توضع الورقة اللبنانية على طاولة المساومات والتسويات.
وبالتوازي نرى أن القصّة بين فريق العهد ورئيس الحكومة ليست مجرد رمانة بقدر ما هي قلوب مليانة، فنرى مجدّدًا هذا يقضم من صلاحيات ذاك، ونرى ذاك متنقلًا من بلد إلى آخر، فيما الأمور متروكة على غاربها، مع تزايد الحدّة في المواقف وآخرها ما صدر عن الهيئة السياسية في “التيار الوطني الحر”، التي إعتبرت أن رسالة رئيس الجمهورية الى مجلس النواب أدّت وظيفتها في الإضاءة على العقدة الحكومية وكشفت المسؤول عنها “بعدما استطاع على مدى سبعة أشهر تغليف عجزه عن التأليف بإلقاء التهم الواهية على الآخرين”. وقالت “ليكن معلوماً أن التيار الوطني الحر لن يسمح بإستمرار المماطلة وسيكون الى جانب رئيس الجمهورية في أي خطوة سيتخذها، ويطالبه بدعوة الكتل النيابية الى التشاور في مجمل الأزمات على مرأى ومسمع من اللبنانيين ليكونوا على بيّنةٍ من مواقف كل طرف سياسي وسلوكه ويتأكدوا بأنفسهم من هم الذين يمنعون الحلول والإصلاحات في لبنان.” هل صدّقتم الآن أن القصّة ليست قصة رمانة.