“كتبت نوال الأشقر في لبنان 24:
انسحبت الأزمة الإقتصادية في لبنان على القطاع العقاري، ولم يعد هذا القطاع بمنأى عن التداعيات الكارثية للأزمة المعيشية التي تعصف بالبلاد منذ سنة ونصف السنة. الأسعار المعروضة، ولو تحت عنوان الحاجة المرحلية إلى الكاش، أبرز دليل. طيلة السنوات السابقة لم تعكس أسعار الشقق القدرة الشرائية للمواطن، لا بل تجاوزتها بأشواط، فكانت القروض المدعومة من جهة وأموال المغتربين والخليجيين من جهة ثانية، المحرّك الأساسي لسوق العقارات. توقّفت القروض المصرفيّة مدعومة وغير مدعومة، أموال المغتربين بدورها احتُجزت في المصارف، في ظل هذا الواقع ارتضى المطوّرون الإنخراط في عملية البيع بموجب شيك مصرفي، فتحرّك السوق في بداية الأزمة. لكن هذا الواقع اختلف في الآونة الأخيرة، فمن يملك المال يفضّل إدّخاره للمتطلبات المعيشيّة بشكل عام، بدل إنفاقه على العقارات، بظل انعدام أيّ أفق للحل.
أسعار الشقق إلى انخفاض
في قراءة لواقع القطاع العقاري، يرى جهاد الحكيّم أستاذ الأسواق المالية في الجامعة الأميركية في بيروت، أنّ أسعار الشقق ستواصل المنحى الإنحداري بظل تفاقم الأزمة المعيشيّة، وليس مستبعدًا أن تنخفض الأسعار إلى حدود غير مسبوقة، كأن يصل سعر الشقّة إلى 20 ألف دولار أو أقل. كيف ذلك؟
يتحدث الحكيم لـ “لبنان 24” عن جملة عوامل ضاغطة على العقار، تقود إلى حتميّة انخفاض الأسعار. أولّها متوسط الرواتب في لبنان، والنسبة التي يمكن أن يُنفق منها على السكن عملًا بقاعدة 36/ 28، القائمة على أن لا يزيد الإنفاق على السكن نسبة 28% من الراتب الإجمالي. بموجب هذه المعادلة، إذا كان الراتب الشهري في لبنان 10.5 مليون ليرة شهريًا، وأدّخر المواطن 28% منه، أي 3 مليون عملًا بالقاعدة المذكورة، يستغرق الأمر 18 سنة لشراء شقّة، يبلغ سعرها 50 ألف دولار. ولأنّ متوسط الرواتب أقل بكثير، خصوصًا بالنسبة لفئة الشباب الأكثر إقبالًا على شراء الشقق، وإذا افترضنا أنّ متوسط الرواتب يبلغ حوالي 4 ملايين ليرة شهرّيًا بأفضل الأحوال، يحتاج الفرد إلى 54 سنة لشراء شقّة بقيمة 50 ألف دولار، أو أن ينخفض ثمن الشقّة عينها إلى 20 ألف دولار، ليتمكّن المواطن من تسديد قيمتها بغضون 21 سنة. فكيف الحال بظلّ غياب كلّ أشكال القروض، وبُعد الرواتب عن هذه الأرقام، وحاجة المواطن لإنفاق مدخوله بالكامل على الطعام والدواء وفروقات الضمان والتأمين في المستشفيات ونفقات لتعليم، وخسارة عدد من اللبنانيين لوظائفهم أو تقاضي نصف راتب؟
بالتالي المعادلة واضحة بالنسبة للعقارات، يقول الحكيّم “إمّا أن يرتفع معدّل الرواتب وتنخفض نسب البطالة بشكل ملحوظ، أو أن تنخفض أسعار الشقق، ولأنّ الخيار الأول مستبعدٌ بظل الأزمة المالية، يبقى الخيار الثاني هو المرجّح، وبدأنا نلمس على أرض الواقع أنّ الأسعار تذهب بهذا الإتجاه”.
لكن كلفة مواد البناء إرتفعت بشكل كبير بفعل ارتفاع سعر صرف الدولار، فكيف ستنخفض أسعار الشقق بهذه الحال؟
يجيب الحكيّم “في المعطى الإقتصادي لا تُسعّر السلعة بحسب كلفتها، بل بحسب قدرة المواطن الراغب بالشراء، والعقار شأنه شأن الأسواق المالية الأخرى والسلع، يخضع لشروط السوق. كما أنّ العوامل الخارجية المحرّكة للطلب تراجعت بشكل كبير، فالطلب الخليجي غاب منذ سنوات، والمغترب اللبناني تقلّصت قدرته الشرائيّة ورغبته بالتملّك والإستثمار بفعل عوامل عدّة، أبرزها احتجاز أمواله في المصارف، ما أفقده عامل الثقة ببلده، فضلًا عن تراجع مستوى الخدمات لا سيّما الصحية والتعليمية وأزمات البنزين والدواء والكهرباء وغيرها، والتي تعكس غياب البيئة الحاضنة للإستثمار. وبسبب تردّي الأوضاع عمدت الأسر إلى إنجاب عدد أقل من الأولاد، فضلًا عن التأخّر في الإقبال على الزواج. يضاف إلى ذلك انخفاض قدرة اللبناني الراغب بالعمل في الخارج على التفاوض للحصول على راتب يليق بقدراته، بحيث يستغلّ بعض أرباب العمل الأزمة وحالة العوز ليعرضوا على اللبناني رواتب أدنى بكثير ما كان يتقاضى قبل الأزمة. كلّها عوامل تجعل المغترب والمقيم يحجمان عن التملّك”.
عوامل أخرى انعكست على واقع القطاع، يضيف الحكيّم، منها غياب القروض وتدهور مؤشّر سهولة القيام بالأعمال في لبنان Ease of doing business الصادر عن البنك الدولي، وارتفاع معدلات الفقر المدقع. هناك انعكاسات انفجار مرفأ بيروت وما أحدثه من هواجس لدى المواطنين. عامل آخر لا يمكن إغفاله فرضته جائحة كورونا في التحوّل الرقمي Digitization، بحيث قلّص مفهوم العمل والتسوق عن بعد والحاجة إلى مكاتب وعقارات في المدن، فالكثير من اللبنانيين يمكنهم القيام بأعمالهم من قراهم دون أن يضطروا لشراء أو استئجار شقق في المدن. هذه العوامل مجتمعة تردع المواطن عن الإستثمار والتملّك، وتجعله يحجم عن إنفاق ما يجنيه على العقار، ويفضّل إدخاره لحاجاته الصحيّة والمعيشيّة، خصوصًا بظل الحديث عن رفع الدعم والذهاب نحو المجهول.
العقار مقابل الطعام
في الداخل بدأت معادلة العقار مقابل الطعام تفرض نفسها وفق الحكيّم، إذ يعمد البعض إلى بيع عقاراتهم لتأمين متطلبات تعليم أولادهم في الخارج، وتأمين مطلبات المعيشة والطبابة وشراء الأدوية من الخارج، وهناك أهالي يدفعون أقساط أولادهم بما فيها المتراكمة في الجامعات من خلال صكوك ملكيّة، ناهيك عن اضطرار البعض لبيع عقاراته بأسعار زهيدة من أجل تأمين تذاكر سفر له ولعائلته، وتوفير مبلغ يبدأ به حياته الجديدة في الخارج. كما يمثّل غياب الأفق وfree fall أو السقوط الحر عامل ضغط إضافي على العقار، من شأنه أن يخفض الأسعار، وذلك بفعل غياب السياسات العلاجيّة على الصعد كافة، الإقتصادية المصرفية والنقدية.
في بداية الأزمة عمد بعض أصحاب الودائع إلى تهريب أموالهم من خلال شراء عقارات، وبنظر الحكيّم من اشترى شقة ظنًّا منه أنّه يهرّب أمواله في آذار 2020 بموجب شيك مصرفي بقيمة 400 ألف دولار بدل حسمه والحصول على 75% من قيمته، أي 300 ألف دولار نقدًا بقصد تحديد خسارته بـ 25%، وجد نفسه ضحية، لأنّه حتّى لو تمكّن اليوم من بيع الشقة عينها بـ 600 ألف دولار، قيمة الشيك هذا أصبحت 144 ألف دولار نقدًا، وبالتالي يكون قد خسر أكثر من مرّتين. انطلاقًا من هنا وبعد تكبد الكثير من اللبنانيين خسائر في السوق العقاري، وفي ظل الإتجاه الإنخفاضي في الأسعار، يفضّل من لديه القدرة على التملك التريث للحصول على سعر أفضل، مما يشكّل عاملًا إضافيًّا في هبوط الأسعار.