يعيش لبنان منذ أكثر من سنة تداعيات انهيار النظام السياسي-الاقتصادي الذي رُسِّي منذ نهاية الحرب، وتكشّف بداية بإفلاس القطاع المالي وانهيار سعر الصرف، وما تبعهما من انهيارات مُتتالية تُهدد المجتمع ببقائه، إذ يجمع كثيرون أنها شبيهة بالأوضاع التي سبقت اندلاع الحرب في العام 1975، لا بل أصعب وأشدّ خطورة منها.
لم تأتِ هذه الأزمة وليدة صدفة، بل نتاج سياسات اتُبعت على مدار عقود، وراكمت حجماً هائلاً من الخسائر المالية على شكل ودائع مصرفية، وخسائر اقتصادية تمثّلت بضحالة القاعدة الإنتاجية وعدم وجود تراكم رأسمالي حقيقي، والأهمّ خسائر بشرية يُعبّر عنها بهجرة بنحو 850 ألف شابٍ وشابّة منذ نهاية الحرب. وترافق ذلك مع اهتراء الدولة وتفكّكها بما حال دون قيامها بوظائفها المُفترضة في تأمين رفاهية المجتمع واستقراره خدمة لمصالح راسخة تعزّزت منافعها وساهمت بنقل الثروة من الأكثرية إلى قلّة.
ما الذي يحمله العام 2021 وما بعده؟
تتسارع حالياً تداعيات الأزمة مع استنزاف ما تبقى من موارد مالية مُتاحة يمكن استخدامها في عملية النهوض، فضلاً عن ترجيح تفاقمها بعد رفع الدعم عن السلع الأساسية، وبالتالي ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، وانقطاع الكثير من السلع، وتوقّف العديد من الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والنقل، فضلاً عن تدحرج المجتمع، ولا سيّما ذوي الدخل بالليرة اللبنانية، إلى مستويات أعمق من الفقر، مع ما قد يتبع كلّ ذلك من حوادث اجتماعية وأمنية عنفية خطيرة، في مقابل تفريغ المجتمع من طاقاته ومهاراته عبر نزيف الهجرة المتوقّع مع عودة الاقتصادات العالمية والإقليمية إلى دورتها الاقتصادية بعد الانتهاء من احتواء أزمة كورونا. ومن ضمن التداعيات الكبيرة المتوقّعة، تبرز خمس قضايا يجب ترقّبها ومقاربتها.
زيادة كبيرة في معدّلي البطالة والفقر
يتوقع أن يؤدّي التدهور الاقتصادي مصحوباً بالتضخّم إلى إغلاق المزيد من المؤسّسات وتوقّف العديد من القطاعات، وهو ما يعني فقدان العديد من فرص العمل، القليلة بالأساس، وارتفاع معدّل البطالة وتدني القوّة الشرائية وارتفاع معدّل الفقر.
تأزم أوضاع القطاع الصحّي وهجرة العاملين فيه
تُعدُّ الهجرة سمة بارزة في الاقتصاد اللبناني إذ ساهمت باستنزاف القوى العاملة على مرّ عقود، وهو ما يتوقّع استمراره نتيجة الأزمة الراهنة، إلّا أن بعض القطاعات مُهدّدة أكثر من غيرها بتفريغها من قواها العاملة، ولا سيّما القطاع الطبّي، بما يُهدّد بفشل احتواء جائحة كورونا، وتراجع الخدمات الطبية، وخسارة لبنان دوره الرائد كـ”مستشفى الشرق الأوسط”.
تدهور مستوى التعليم
بعد عقود من حصر تقديم التعليم الجيّد بالمدارس والجامعات الخاصّة، وبالتالي إمكانية الحصول عليه بمن يملك ثمنه أو لديه القدرة على الاستدانة، في مقابل إهمال التعليم الرسمي وإفراغه من أي أهداف اقتصادية أو سياسية، تأتي الأزمة الراهنة لتهدم هذا النظام أيضاً، نتيجة تراجع قدرة العائلات على تعليم أبنائها في المدارس والجامعات الخاصّة، ونضوب الموارد المالية المُتاحة للاستدانة ودعم الطلب على هذا التعليم، فضلاً عن تفريغ هذه المؤسّسات الخاصّة من كوادرها وتراجع مستواياتها نتيجة تراجع الأجور وتدحرج الانهيار.
زيادة التوترات الاجتماعية والعنف ومعدّلات الجريمة
خلال فترة الكساد الكبير في العام 1929 في الولايات المّتحدة كان الناس يرمون أنفسهم من النوافذ انتحاراً نتيجة تنامي معدّلي الفقر والبطالة، فيما نشط عمل المافيات والجريمة المنظّمة والسرقات. هذه السيناريوهات تكاد تكون واحدة في معظم المجتمعات التي تشهد أزمات اقتصادية، وهو ما يرجّح حصوله في لبنان أيضاً.
تنامي النزعة الانفصالية وتعميق سياسات الهوية
خلال الأزمات العميقة، تبرز غالباً النزعات القومية والانعزالية، وأخطرها تلك التي تعبّر عنها التنظيمات السياسية اليمينية والشعبوية نظراً لقدرتها على حرف الخطاب العام عن أسباب المشكلة نحو النتائج التي أوصلت إليها، بما يؤدّي إلى تكرار الوقوع في المشكلة نفسها.