على القاعدة نفسها تسير أمور الدولة والعهد. تسويات بعد تصعيد شكلي مفتعل في قضية مكتّف وما حولها، تدقيق جنائي مالي “مغّطوه” حتى باتت حقيقة نتائجه تحتاج إلى سنوات، ينتهي في مجلس النواب على قاعدة “ما حدا خسر، أي براءة ذمّة مالية للجميع”. تحقيق” مروكب” في انفجار مرفأ بيروت يكاد أن لا ينتهي “جولات” بين القضاة. ترسيم للحدود أطلق صفّارة بدايته سيد المجلس، ليدور دورته الكاملة، مروراً ببعبدا ومرسومها، قبل أن يعود إلى اتفاق إطار ساحة النجمة، في حال كُتب له أن يصل إلى مكان. الإختلاف الوحيد بين كل الملفات، خلطة المؤيدين والرافضين” الغريبة عجيبة”.
فبعيداً عن تفاهة اتهامات العمالة المعلّبة، وزوابع الوطنية الفائضة، وما بينهما من “انتفاضة” كرامة لبنانية، ثمة قطب مخفية بالتأكيد في الأحداث وتطورها، كما في مسألة “تنييمها”، بعد تأديتها قسطها للعلى، إذ يبدو أن الإتجاه المحلي الرسمي بات أكثر تماهياً مع الإرادة الدولية والإقليمية، حيث لم يعد من أهمية للتوقف عند تهم التأخير والمماطلة، إلاّ عند أولئك الذين “تحت باطن سلة بتنعرن”.
في رحلة البحث عن حقيقة ما يجري، قد لا تتطابق حسابات الكلام مع بيادر الوقائع، حيث يبيّن التحليل وجود تقاطع مصالح لبناني – إسرائيلي، تُظهره معطيات داخلية، في كلا البلدين، وخارجية، تفرض تغيير تكتيكات إدارة ومعركة التفاوض، علماً أن أصحاب القرار الفعليين، مدركون منذ اليوم الأول أن مسرحية “قلّو تيقلّي” في خيمة الناقورة، بجزئها الأول، لن تتخطى جلساتها عدد أصابع اليد الواحدة في اتفاق مصالح غير مباشر بين اللاعبين الأساسيين.
وعلى العكس من دفعة المباحثات السابقة، تُجمع المعلومات على أن وتيرة المرحلة الثانية، ستسير بسرعة الصاروخ ما لم يطرأ ما هو من خارج الحسبان، وعلى نار حامية، بعدما أُنجزت الخطوط العريضة للإتفاق الحدودي البحري دولياً، على أن تتكفّل جولات المحادثات تخريجه. أما أبرز العوامل الدافعة في هذا الإتجاه فتتلخّص في النقاط التالية:
ـ الأميركيون يستعجلون الحل في ظل عمليات السلام والتطبيع العربي الإسرائيلي الجارية على قدم وساق، بعدما قرّرت واشنطن إقفال ملف الصراع الأساسي في المنطقة، والإنتقال إلى آسيا الوسطى لخوض مواجهتها مع الصين. فكلما أحدث الروس والإماراتيون خرقاً بين دمشق وتل أبيب، كلما سُرّعت عملية الترسيم في البحر، وبعدها في البرّ، فمع حلّ مسألة مزارع شبعا البرّية، ليست واشنطن في وارد السماح بخلق واحدة بحرية، وهو ما أعلنه رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل صراحة من موسكو، بان مقاربته الحدودية هدفها أن لا تكون هناك مزارع شبعا بحرية. فهل يعني ذلك أن الصهر يتماهى مع القرار الأميركي – الروسي على حساب “حزب الله”؟ وهل بات عملياً أقرب إلى الرئيس فؤاد السنيورة؟
ـ إسرائيل بدورها، تستعجل إنجاز ملف الترسيم لأسباب حيوية تتعلق بأمن الطاقة لديها. وفي سبيل ذلك، أبلغ الأميركيون الجانب اللبناني منذ أيام، أن تل أبيب وافقت على العودة إلى طاولة المفاوضات، وهي ملتزمة بالعملية وفقاً للمسجّل لدى الأمم المتحدة، أي أن تكون المفاوضات بين الخطين ١ و٢٣، وتسليمها الضمني بانطلاق المفاوضات من خط قيادة الجيش. أمّا شرطها الثاني، فهو بحث مسألة الحقول المشتركة وإيجاد الحلول لها. عليه، في حال “قرّشنا” كلام باسيل، إستناداً إلى الخريطة الحدودية التي رسمتها إسرائيل منذ أيام ونشرتها، يكون الخط الحدودي البحري بين لبنان وإسرائيل قد بات واضحاً، لجهة حسم مستقبل البلوك رقم ٩ والحقل النفطي الذي يحتويه.
– أمّا على الجانب اللبناني، لا يختلف إثنان على أن موقف بيروت التفاوضي بات أضعف، بحسب الممانعين، في ظل الإنقسام الداخلي “الخفي” بعد قنبلة جنرال بعبدا بعدم توقيع المرسوم، بوصفها جزءً من التكتيك التفاوضي، فإن الكثير من الأسئلة ما زالت مطروحة وتحتاج لإجابات واضحة. فالطرف الأميركي أبلغ مفاوضي رئيس الجمهورية، بأن العقوبات مفصولة عن ملف الترسيم، فلماذا “تنازل” لبنان وإن شكلاً؟ أمّا السؤال الأبرز فهو، أين يقف “حزب الله” من كل ذلك وسط الصمت المطبق الذي يمارسه؟
واضح أن أبواق الحزب “فاتحة” معركة على رئيس الجمهورية. كما أن رئيس مجلس النواب نبيه بري، غير مستعد “للمساعدة” في تمرير “الصفقة”، لعدة أسباب. فهل في ذلك إشارة من حارة حريك؟