“شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان”
إنه الشهر الوحيد الذي ورد اسمه في القرآن الكريم، وقد ورد مقروناً بالقرآن في آية واحدة، وفي اقترانها معاً ما يدلّ على أن رمضان ليس مجرد ظرف زمان لعبادة الصيام، بل المراد أبعد من ذلك ليكون رمضان شهر كل القرآن، والقـــرآن هو الدين كـله، وهو النــور كـله، وهــو الوحي والمصــدر، والهدى والبينات، وهو الفرقــان، وهو للناس كــل الناس، “ولكن الناس أنفسهم يظلمون”.
ومن كمال التشريع الإلهي ذلك التلازم بين رمضان والقرآن والإنسان، فالإنسان الذي كُتب عليه صيام هذا الشهر هو كتلة من المشاعر المختلفة والطبائع المتنوعة التي أودعت فيه وجُبل عليه، وتلك الطبائع والأخلاق التي يحملها الإنسان، منها ما هومحمود مطلوب ومنها ما هو مذموم مرفوض، وكل شخص له نصيب من ذاك وذاك، وبنسب متفاوتة من شخص وآخر..
فالكرم والشجاعة والحلم والحكمة وكذا أضدادها من البخل والجبن والغضب والتهور، كلها مركبة في النفوس مودعة في الطبائع، وكلها جعلها الله تعالى تحت إرادة الإنسان وقوته العقلية والنفسية، فيستطيع تنمية الصالح منها والتخلص من القبيح فيها.
وغاية الدين والقرآن هي تقوية ركائز الخير وطباع الفطرة السليمة في جوهر الإنسان ودواخله، ومجاهدة طباع النقص والرذائل في أعماقه وخلجاته، لأنه بذلك يتماهى مع إنسانيته، وبدونها يرتد أسفل سافلين.
ولما كانت العبادات عامة وتَمَثُّلُ تعاليم القرآن هي وسيلة ذلك السموّ والارتقاء والتعالي والترفع، جاء الصوم ليكون الوسيلة الأقرب والطريق المباشر لتدريب الانسان لبلوغ هذا الهدف وتسهيل هذه الغاية بما يحمله الصوم – وعلى مدى شهر كامل سنوياً – من تغليب حزم الإرادة على تراخي الهوى، وقهر تفلت النوازع بثبات العزيمة، والتحكم بالمرغوبات والمحبوبات الجسدية بقوة العقل ومتانة الصبر وصلابة المجهادة ، ناهيك عن الصفاء النفسي والطمأنينة الروحية والسكينة الداخلية التي تفعل فعلها في ترقيق طباع الصائم ليكون أقرب إلى التماهي مع القرآن العظيم وأكثر تهيأة لتدبّره والتفاعل مع توجيهاته التي ترشد وتهدي وتبيّن لهذا الإنسان الحائرمعاً من الهلاك والخلل ومواطن النجاة والفوز، لذلك يأتي الشطر الثاني من الآية الكريمة ليقول: ” هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان”.
ولا يخفى أن سياق الآية جاء على طريقة الوصف والتعريف لشهر رمضان، فالعرب قبل الإسلام تعرف رمضان كواحد من شهور السنة، ولكن القرآن الكريم عندما فرض صيام هذا الشهر أعطاه تعريفاً جديداً وأوصافاً خاصة، فكأن متسائلاً سأل: ما هو شهر رمضان؟ وما تعريفه؟ . فكان الجواب: إنه ” الذي أنزل فيه القرآن “.
وهذا الأسلوب مشهور في علم البديع من فنّ البلاغة بأنه: “أسلوب الحكيم ” أو ” القول بالموجب ” ، حيث يلفت القارئ أو السامع وينقله من المألوف لديه إلى ما يعنيه ويفيده من الموضوع، كما في قوله تعالى: ” يسألونك ماذا ينفقون ” أي كم ينفقون من أموالهم وكم يتركون، فجاء الجواب بذكر المنفق عليهم وترك التقدير إليهم فقال سبحانه: ” قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل، وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم “.
وهكذا شهر رمضان حيث تعرفونه وتتصورونه بأنه ” الذي أنزل فيه القرآن ” وليس الشهر المعروف لديكم كسائر الشهور، فتعاملوا معه على هذا الأساس وبهذا الوصف والتعريف.
إنه شهر القرآن، والقرآن هو البينات والهدى والفرقان، والصوم سبيل الإنسان على فهم البينات والهدى وتطبيق الفرقان على النفس وفي المجتمع.
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام، ونفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وكل عام وأنتم باف خير…
المصدر: لبنان 24