كتب رفيق خوري في “نداء الوطن”:
ليس في مسرح اللامعقول ما يضاهي في العبثية ما نراه ونسمعه على المسرح السياسي في لبنان المأزوم. ولا في التراجيديا الإغريقية الخيالية ما يشبه فظاعة التراجيديا اللبنانية الواقعية. فالعبث في السجال السياسي على أعلى المستويات وأدناها ليس “فانتازيا” أدبية للتعبير عن عمق الصراع في الوجود بل عبث يخفي أهدافاً تدميرية أو يكشف مستوى التفاهة والعقم. والبطل في التراجيديا الإغريقية يواجه القدر وحده في النهاية بلا تردد، في حين يهرب البطل في التراجيديا اللبنانية من مواجهة القدر تاركاً الناس تواجه القدر الذي دفعها نحوه بالغطرسة والخيارات الخاطئة والأنا المتضخمة.
ذلك أن كل الأزمات وكل المبادرات المحلية والخارجية تقود الى باب وحيد للخروج من المأزق: حكومة إنقاذ استثنائية تحظى بثقة الداخل والخارج وتفتح الطريق الى صندوق النقد الدولي كمحطة إجبارية للمساعدات وفك عزلة لبنان. وما يحدث هو الدوران حول الباب للامتناع عن عبوره، لأنه يقود الى إجراء الإصلاحات المطلوبة منذ سنوات والتي التزمها أمراء الطوائف، ثم تملصوا من إلتزامهم تحت عناوين كبيرة، مع أن السبب الحقيقي مكشوف: الحرص على الإمتيازات والتلاعب بالدستور والقوانين والتمسك بمزاريب الهدر والسرقة وتوظيف المحاسيب من جهة، والخوف من بناء الدولة على حساب الدويلات والخوف على الدور المفروض على لبنان ضد طبائع الأمور كرهينة وورقة في لعبة جيوسياسية ضمن الصراع في المنطقة وعليها، من جهة أخرى.
وقمة العبث استمرار هذه الألعاب الشيطانية وسط الانهيار المتسارع في كل نواحي الحياة في البلد. لكن ما سماه هيغل “مكر التاريخ” فاجأ الذين ناموا على حرير الأحلام وتصوروا أن ما توصلوا اليه من تفاهم على حصر السلطة بالأقوياء في طوائفهم هو نهاية التاريخ. وها هم يكتشفون أنهم وصلوا الى نهاية العبث في تبديد ثروة لبنان واللبنانيين. فالدولار أقوى من الزعماء الأقوياء والسلاح والمفاخرة بفائض القوة حتى على المستوى الإقليمي. ولا أحد يستطيع معالجة انهيار الليرة، وبالتالي صعود الدولار الصاروخي، بالعصا. ولا كل حروب لبنان وأزماته تمكنت من إغلاق البلد كما يفعل الدولار.
والسؤال البسيط هو: ماذا يعني أن يكون الهم الأول عند تأليف الحكومات هو ضمان أداة التعطيل بل تنظيم أدوات التشغيل؟ أي مستقبل لأي لاعب سياسي إذا كان مستقبل لبنان على كف عفريت يسمي نفسه الحامي والمنقذ؟ قمة المفارقات أن نسمع من يتحدث عن”مؤامرة” على المتمسكين بالسلطة، في حين أن العواصم العربية والدولية المستعدة لمساعدتنا صارت تتحدث علناً عن “تخاذل المسؤولين وخيانتهم” للشعب وتهدد بفرض العقوبات عليهم لدفعهم الى تأليف حكومة.
يقول نيلسون مانديلا: “التخلي عن فكرة خاطئة هو أيضاً قيادة”. والعناد يا سادة ليس شجاعة بل خوف مصفح.