مع كل أزمة وكل عاصفة مالية، عالمياً أو محلياً، يثبت المعدن الأصفر أنه أكثر الملاذات أماناً. وكما كافة الأزمات العالمية، تدفع اليوم عاصفة انهيار بنك سيليكون فالي الأميركي وأزمة بنك كريدي سويس المستثمرين الدوليين للجوء إلى الذهب. وهو ما يُعد من أقل الاستثمارات مخاطرة، وأكثرها تحفّظاً، لاسيما في المراحل التي تعبث فيها الفوضى.
قد لا يختلف حال المغتربين اللبنانيين عن سواهم من المودعين والمتعاملين مع المصارف في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. فقد ارتفع منسوب القلق لديهم من خسارة مدخراتهم في المصارف، فيما لو كرّت سبحة الإفلاسات على غرار ما حصل عام 2008. ولا شك أن حالة القلق بين اللبنانيين مضاعفة وقد ترقى إلى مستوى “الهلع”، باعتبارهم عايشوا تجربة سابقة من فقدان الودائع والمدخرات في المصارف اللبنانية، مع الإشارة إلى الاختلاف الجذري لآلية التعامل مع الأزمة المصرفية بين الولايات المتحدة ولبنان.
الإقبال العالمي على الذهب
قفز سعر أونصة الذهب في الأيام الماضية بالتزامن مع أزمة المصارف الأميركية بنحو 10 في المئة، مسجّلاً أعلى مستوياته في عام، بفعل تزايد الطلب عليه كأكثر الخيارات أماناً من الأسهم والعملات.
وبعد ان كسر سعر أونصة الذهب مستوى الـ2000 دولار، عاد وهدأ في الأيام الأخيرة، بعدما أنعش إنقاذ كريدي سويس الإقبال على المخاطر، رغم استمرار الضبابية بشأن النظام المالي. لكن ورغم ذلك، يرى محللون أن هدوء أسعار المعدن الاصفر اليوم قد لا تطول كثيراً، فهي تستعد لتحقيق أكبر مكاسب منذ شهر تشرين الثاني. إذ تدفع الأزمة المصرفية العالمية المستثمرين إلى الإقبال على المعدن النفيس بشكل لافت.
..والتهافت اللبناني
في لبنان يبدو المشهد سريالياً، فاللبنانيون هاربون من الداخل والخارج إلى التحوّط بالذهب. إذ لم يعد في قائمة مكامن الإدخار سوى الذهب، لاسيما بعد احتجاز أموالهم في المصارف اللبنانية وهروبهم من مصارف دول قد تتأثر بأزمة المصارف الأميركية.
وكان لافتاً جداً بالنسبة إلى تجار المجوهرات في لبنان، الإقبال الكبير من المغتربين اللبنانيين على شراء الذهب، لاسيما السبائك الصغيرة والأونصات. حتى أصحاب الرساميل يتّجه البعض منهم إلى الذهب للاستثمار وليس الإدخار، تماشياً مع التوقعات العالمية باحتمال بلوغ سعر الأونصة 2500 دولار، وربما 2600 دولار خلال العام 2023.
جولة سريعة على تجار ومحلات المجوهرات، تكشف التوجه العام لدى اللبنانيين -مقيمين ومغتربين- فالعديد من التجار يُجمعون على أن بيع الذهب المُصاغ تراجع مؤخراً على حساب الارتفاع الملفت لبيع الأونصات والليرات وحتى السبائك.
ولا تقتصر الحركة النشطة بالبيع على الأونصات والسبائك السويسرية، التي يُتاح لصاحبها تصريفها في مختلف دول العالم، إنما أيضاً تنشط حركة السبائك والأونصات اللبنانية الإنتاج. وهي ذات جودة عالية وتقل خسارتها عن السويسرية في حال بيعها.
ويصف أحد تجار الذهب في بيروت ماهر عدلوني الإقبال على شراء الذهب بـ”الهائل”. إذ لم يشهد له مثيل من قبل، لاسيما لجهة الأونصات الصغيرة (31.10 غراماً) البالغ سعرها 1950 دولار، وحتى الأونصات 500 غراماً والسبائك.
وإذ يشير عدلوني في حديث إلى “المدن” إلى أن الإقبال الكبير على شراء الذهب يشمل مختلف أحجام الأونصات والسبائك، يلفت إلى أن كثراً من الزبائن يطلبون كيلو (1000 غراماً) و4 كيلو و6 كيلو. وهناك من طلب مؤخراً 10 كليوغرامات من الذهب، ويبلغ سعر الكيلو نحو 65 ألف دولار. ومَن كان يشتري أونصة واحدة في السابق، بات يشتري 2 أو 3 أونصات اليوم، على ما يقول عدلوني.
استثمار وليس فقط إدخاراً
ليس مستغرباً الإقبال على شراء الذهب، فاللبنانيون، المقيمون والمغتربون، فقدوا الثقة بالعملات الورقية، لا سيما بعد اختلاس أموالهم ومدخراتهم في المصارف اللبنانية. فالإدخار في لبنان تتقاسمه اليوم سوقا العقارات والذهب، وبالنظر إلى المؤشرات العالمية المتفائلة حيال ارتفاع أسعار الذهب في المرحلة المقبلة، بات المعدن الأصفر الجاذب الأكبر لأموال المغتربين في لبنان.
من هنا يمكن الحديث عن تزايد اهتمام اللبنانيين، لاسيما منهم المغتربين بالاستثمار بالذهب وليس فقط بالإدخار. هذا الأمر يفتح الباب على زيادة التحويلات الدولارية من المغتربين إلى لبنان، خوفاً من انتقال عدوى المصارف الأميركية إلى المصارف التي يتعاملون معها في دول اغترابهم.
وفي دلالة قاطعة على الإقبال الكثير على شراء الذهب في لبنان، يقول نقيب تجار الذهب والمجوهرات نعيم رزق في حديث إلى “المدن”: “في حال طلب أحد الزبائن اليوم شراء 300 اونصة ذهب فلا يمكن تأمينها بأقل من 3 ايام، في حين كانت تؤمّن فوراً في السابق. فالطلب كبير جداً ومن المتوقع أن تترجم أرقام استيراد الذهب لاحقاً الإقبال الكبير على الشراء خلال هذا العام”.
الدولار النقدي فقط
ويوضح رزق أن الإقبال على الذهب غير المصاغ يعود للعديد من الأسباب، أهمها أنه سهل التصريف: “فالذهب المشغول يزيد سعر الغرام منه من 8 إلى 15 دولاراً”. وليس هذا وحسب، فالأونصة والسبيكة لا تخسر كثيراً من قيمتها في حال بيعها كحال الذهب المُصاغ.
ليرة الذهب على سبيل المثال لا تزيد خسارتها عن 5 إلى 6 دولارات فقط، وكذلك الأونصة لا تزيد خسارتها عن 10 والـ20 دولاراً، أي بحدود نصف دولار فقط عن كل غرام ذهب. هذا في حال لم يتغير سعر الذهب عالمياً. أما الذهب المُصاغ فتختلف نسب خسارته بين التجار، ولكنها لا تقل عن ثلث قيمته الحقيقية وهي نسبة عالية جداً.
وعن آلية سداد قيمة الذهب، يتمسّك التجار بالتعامل النقدي (الكاش)، قاطعين الطريق على أي تعاملات أخرى، لا بالليرة ولا شيكات مصرفية. هو الدولار فقط من يدير عمليات شراء الذهب. إلا أن بعض تجار الذهب يعتمد آلية التقسيط مع الزبائن الذين تربطه بهم ثقة بالتعامل، فيجري إبرام عقد مع الزبون ينص على شراء أونصات أو ربما سبيكة، ويبدأ الزبون بتقسيط المبلغ المطلوب شرط الإبقاء على الذهب المطلوب في خزنة التاجر إلى حين سداد كامل قيمته. هذه الآلية من التعامل تتيح المجال أمام اللبنانيين محدودي القدرة على الإدخار، باقتناء بعض القطع الذهبية.
المصدر : الأخبار