ترتفع أسعار المواد الاستهلاكية بشكل مستمر من دون توقف. لا تستكين مع هدوء عاصفة الدولار أو تراجعه في بعض الاحيان. فقد اعتاد التجار على التمادي في رفع أسعار المواد الاستهلاكية بما فيها الغذائية، استبقاقاً لارتفاع سعر الدولار، وتجنباً لتراجع نسب أرباحهم أو تآكل رساميلهم.
إلا أن عملية تقدير ارتفاع الأسعار تتفاوت بين النظريات العلمية والواقع. فقد خلصت مديرية الإحصاء المركزي، في تقريرها الصادر مؤخراً حول أسعار الاستهلاك، إلى أن مؤشر الأسعار سجل ارتفاعاً بين شهر كانون الأول من العام 2021 وكانون الأول من العام 2022 نحو 122 في المئة (121.9 في المئة)، في حين يقدّر المستهلك بنفسه ارتفاعات على مدار العام المذكور بالمئات. فمن المواد ما ارتفع بنسبة 400 في المئة، ومنها 500 في المئة، وربما أكثر.. إذاً كيف تقدّر تلك الارتفاعات؟ وهل هي واقعية؟
قد لا تكون نسبة ارتفاع مؤشر أسعار الاستهلاك 121.9 في المئة بالنسبة الضئيلة، لا بل مرتفعة جداً، إلا أن الواقع يثبت أن الارتفاعات تجاوزت تلك الأرقام بأضعاف. ولا نشكك هنا بآلية احتساب المديرية العامة للإحصاء المركزي لنسب ارتفاع الأسعار، ولا بالألية العلمية المعتمدة من قبلها. لكن هل يعتقد من يستند إلى تلك الأرقام أنها تعكس الواقع فعلاً؟ وهل يعتقد أن غالبية اللبنانيين اليوم يعنيهم ارتفاع أسعار المفروشات أو تعرفة الفنادق أو السيجار والمشروبات الكحولية أو أبواب الترفيه والاستجمام وغيرها؟ أم تعنيهم فقط المواد الغذائية الأساسية والمحروقات والأدوية والمواصلات والخبز؟
أرقام مديرية الاحصاء
تُصدر إدارة الإحصاء المركزي شهرياً الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك، الذي يعطي بدوره الصورة الإجمالية عن تطور أسعار السلع والخدمات المعيشية من قبل الأسر، ويتألف الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك، حسب المديرية، من 12 سلسلة زمنية لأسعار الاستهلاك صممت خصيصاً لقياس تضخم أسعار سلع الاستهلاك كافة، المشتراة من قبل المستهلكين. فتشمل السلة الاستهلاكية المواد الغذائية والمشروبات الروحية وغير الروحية والألبسة والأحذية والمسكن والماء والكهرباء والمحروقات والأثاث والصيانة المستمرة للمنزل والصحة والنقل والاتصالات والاستجمام والتسلية والتعليم والمطاعم والفنادق وسلع وخدمات أخرى.
لكن تلك النتائج التي خلصت إليها عمليات الإحصاء المركزي لا تتعدى كونها تقديرات علمية نظرية. أما في الواقع، فالأسعار ارتفعت فعلياً بين 3 أضعاف و5 أضعاف. أي من 300 إلى 500 في المئة. فالمواطنون العاجزون عن تأمين معيشتهم اليوم وهم ذات الغالبية السكانية، يقتصر استهلاكهم على الأساسيات فقط، ناهيك عن أن الأسعار ليست موحدة ولا حتى متقاربة في الأسواق وبين المتاجر والسوبر ماركت.
فالتجار يسّعرون بضاعتهم على أساس أسعار للدولار تفوق الأسعار المتداولة في السوق السوداء، وتختلف عنها صعوداً بشكل ملحوظ، ذلك لتجنب أي ارتفاعات إضافية مفاجأة للدولار قد تقلص أرباحهم أو رساميلهم.
ويسعّرون اليوم على سبيل المثال الدولار بـ60 ألف ليرة. علماً ان السعر الحقيقي للدولار في السوق السوداء يتراوح (حتى تاريخ نشر هذا التقرير) بين 55 ألف ليرة و55500 ليرة.
الارتفاع الحقيقي للأسعار
وفي حين تقدّر مديرية الإحصاء ارتفاع مؤشر أسعار الاستهلاك بـ121.9 في المئة، وهو تقدير شامل وعام، يلحظ المستهلك ارتفاع سعر ربطة الخبز على سبيل المثال، وهي عنصر أساسي في معيشته، من نحو 7500 ليرة إلى 22000 ليرة، بين كانون الأول 2021 وكانون الأول 2022. أي أن سعرها تضاعف بنحو 3 مرات. أما صفيحة البنزين فارتفع سعرها خلال المدة الزمنية عينها من 300 ألف ليرة إلى نحو 800 ألف ليرة. أي بأكثر من ضعفين ونصف الضعف، أو بنسبة 250 في المئة. وهكذا دواليك على أسعار كافة المواد الاستهلاكية الأساسية.
وإذا ما استندنا إلى رأي البنك الدولي، فقد ورد في تقرير له، صدر في النصف الثاني من العام 2022، صنّف لبنان في المرتبة الأولى عالمياً على مؤشر البنك الدولي لتضخم أسعار الغذاء متخطياً دولاً مثل زيمبابوي، وفنزويلا.
وأكثر من ذلك، إذا ما استندنا إلى أرض الواقع، نلحظ أن الأسعار ارتفعت أكثر فأكثر. وتكاد مظلة السوق السوداء تغطي كافة السلع الأساسية، من بينها الدواء والمحروقات والخبز والمواد الغذائية بكافة أنواعها. فكل شيء يُباع بأسعار متفاوتة يفوق معدل تسعيرها سعر الدولار الحقيقي في السوق الموازية. من هنا يمكن رصد نسبة غلاء الأسعار. فالمعيار الأساس يبقى جيب المستهلك.
المصدر : المدن