أسوة بسوريا والقضية الفلسطينية، تخلص نقاشات غربية إلى أن لبنان دخل طريقاً مسدوداً، يتعذّر معه إيجاد حلّ قريب لأزمته، فيما يستمر التعويل على منع الانفلات الكامل، ولو بالحدّ الأدنى.
التوترات المتنقلة، والإشكالات بين القوى السياسية، تحجب في كثير من الأحيان التطلّع الى ما يحصل في لبنان من زاوية مكبّرة. وإذا كان السؤال حول سبب عدم الانفجار التام حتى الآن، رغم منحى الانهيار الاجتماعي والمالي، أصبح عادياً بلا أجوبة شافية، فإن نقاشات غربية خارج لبنان أصبحت تركّز أكثر على مستقبل الوضع اللبناني ربطاً بما يحصل في سوريا.
ثمة خلاصة أولية تنتهي إليها هذه النقاشات، وهي أنه كما وصلت القضية الفلسطينية الى حائط مسدود، ووصلت سوريا الى طريق مسدود بعد حربها الطويلة وتعدّد هويّة التدخلات فيها، فإن الوضع اللبناني وصل كذلك الى طريق مسدود. أمر وحيد لا يزال يقف عائقاً أمام الانهيار التام، هو رغبة دولية في منع ما قد يتحوّل إلى حرب متفلّتة من كل ضوابط أسوة بما حصل في سوريا، أو بما سبق أن استخدم في لبنان سابقاً واستنفدت الغايات منه.
ولا يمكن الاستهانة مطلقاً بما يمنع هذا السقوط في حرب متجددة، لأن الحرص على ذلك نابع من عدم وجود رغبة في الانشغال بحربين في منطقة الشرق الأدنى، كلتاهما تشكّلان عبئاً على كل العواصم المعنية فيهما شرقاً أو غرباً. في المقابل، هناك تركيز ثابت على أن قرار منع السقوط المدوّي، لا يعني مطلقاً أن أسباب التوتر الاجتماعي في ظل ما يشهده لبنان حالياً من تراجع قيمة عملته يومياً واستمرار إفقار اللبنانيين وتجويعهم، لن يكون سبباً «محلياً» في حصول مواجهات أو صدامات قد تشقّ طريقها عبر قضايا قد لا تكون اجتماعية بحتة. وهذا المنحى لن يكون في يد أي عاصمة منع انفجاره، فيما يفترض أن يشكل دافعاً محلياً لوضع ضوابط سريعة لمنع هذا الانفلات، أو بالحد الأدنى لمحاولة التحرك السياسي لوقف مساره. في حين يظهر أن ثمّة دفعاً محلياً في اتجاه تصعيد الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، من دون أي اعتبار لحجم المخاطر التي تنجم عنها.
في النقاش الخارجي أمران أساسيان، هما: موقفا الولايات المتحدة والسعودية. في الموقف الأول، هناك تأكيد لما لا يريد البعض في لبنان الاعتراف به، وهو أن واشنطن مبتعدة في شكل شبه كامل عمّا يحصل في سوريا، في الشكل الذي يجعلها تستثمر فيها سياستها الإقليمية. وهذا الأمر ينسحب تأثيره على سياستها في لبنان. فهي تتعامل مع ما يحصل فيه بالحدّ المطلوب لمنع انهياره وحفظ بعض الاستقرار فيه، وهذا أصبح لازمة يكرّرها المعنيون الفاعلون في الدبلوماسية الأميركية. فواشنطن تعلم أن مشكلة لبنان وسوريا صارت أكثر التصاقاً ممّا كانا عليه في السنوات الأخيرة، بفعل تداخل العوامل الإقليمية، وتحديداً الدور الإيراني، إلا أنها لا تريد حالياً مزيداً من التورط في معالجة ملفات لبنان، إلا بما تقتضيه الضرورة. وهذا يحتّم عليها العمل وفق متطلبات معينة لمنع انهياره التام وعدم جنوحه نحو دورات عنف جديدة، هي في غنى عن متابعتها والتدخل لمعالجتها على مستوى إقليمي شامل.
أما الموقف السعودي، فيشبه الموقف الأميركي وإن في شكل أكثر تطوراً. لا تريد السعودية التدخل رغم محاولات عربية – خليجية محدودة لإعادة استدراجها الى سوريا، وتلقائياً لا تريد التدخل في لبنان وفق المنظار ذاته الذي ترسم به سياستها في البلدين، مهما جرت محاولات غربية أو إقليمية لجعلها عنصراً أساسياً في أي حل مطروح لمعالجة أزمة البلدين. ما يخص لبنان، ورغم أنه يشكل خصوصية بفعل وجود حلفاء وأصدقاء لها فيه، ورغم بوادر حوار إقليمي لم ينضج في شكل كامل، إلا أن الثابت لديها حتى الآن أن ابتعادها عن بيروت سياسياً يعادل ابتعادها عن سوريا. وفي ذلك سلبية على الوضع اللبناني، لأن من يقرأ بجدية موقفها الموحد، ويسعى الى تليينه، يتعامل معه على أنه ربح صافٍ لإيران في بيروت ودمشق معاً. لأن إيران في برنامج سياستها لوضع نفوذها في المنطقة كورقة رابحة في أي مفاوضات دولية، لا بدّ أن تكون غير مرحّبة بأيّ دور خارج عن إطار التعاون معها في كلتا الساحتين. فكيف الحال في لبنان، حيث نفوذها يظهر حتى الآن أكثر بروزاً وفاعلية، ولا تشاركها فيه لا روسيا ولا تركيا، كما هي عليه الحال في سوريا. وهذا يجعل منها مستفيداً أوّل من استمرار غياب الدور السعودي الفاعل، والذي لا يقتنع بأيّ مبررات للدخول بقوة الى الساحة اللبنانية.
في موازاة هذين الموقفين، كان التشديد على أن من الصعب التعامل مع الأزمة اللبنانية على أنها مرشحة للحل في وقت قريب. الكلام عن أفق مسدود بات شائعاً في المداولات. وثمة رؤية متشائمة معطوفة على وقائع عملانية، بأن ما كان يمكن أن ينجح فيه لبنان للخروج بحدّ مقبول من الخسائر ومن محاولات وضع أسس أولية للحل، لم يعد متاحاً في الوقت المنظور. وأيّ تعويل على أدوار خارجية حالياً بات ضرباً من الأوهام.