قد يكون خبر إعادة تكليف رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي تشكيل حكومة جديدة، إن قُدّر له ذلك، وهو ما يستبعده كثيرون في الوقت الحاليّ، الأقلّ “إثارة” في يوم الاستشارات الماراثوني الطويل في قصر بعبدا، باعتبار أنّ الأمر كان محسومًا منذ اليوم الأول، لعدم وجود منافس “جدّي”، ولو حاول البعض أن يصنّف السفير نواف سلام في هذه الخانة.
مع ذلك، حفلت الاستشارات بالعديد من “المفاجآت” أو ربما “الغرائب”، من بينها مثلاً أنّ نواب “التغيير” حاولوا دحض الإشاعات عن “افتراقهم”، فحضروا إلى القصر الجمهوري بوفد “موحّد”، والتقوا رئيس الجمهورية ميشال عون “جماعيًا”، لا “فرادى” كما جاء في جدول الاستشارات، إلا أن تصويتهم لم يكن “موحّدًا”، فانقسموا إلى مجموعتين غير متجانستين.
من “المفاجآت” أيضًا، انضمام النائب ميشال المر إلى “التكتل الوطني” الذي يضمّ النواب طوني فرنجية وفريد هيكل الخازن وملحم طوق، كما حضور “طيف” رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري رغم تعليق مشاركته في العمل السياسي، وذلك من خلال صوت “يتيم” حصده من النائب جهاد الصمد، اعتراضًا على قرار “تغييبه” عن المشهد.
إلا أنّ “المفاجأة الأكبر” تبقى في موقف “القوات اللبنانية” التي “تمايزت” عن “الحزب التقدمي الاشتراكي” بعد أيام من إعلان “التنسيق الكامل” في الملف الحكومي، والتي وجّهت “ضربة قاسية” للمعارضة، بعد كمّ الانتقادات التي وجّهتها لها سابقًا، وذلك حين امتنعت عن تسمية نواف سلام، بحُجّة أنّها “لا تعرفه” رغم “تباهيها” بأنّها كانت أول من سمّاه!.
هكذا، طرح موقف “القوات اللبنانية” الذي لم يبدُ مقنعًا لمعظم المراقبين، الكثير من علامات الاستفهام وربما التعجّب أيضًا، فلماذا اختارت “التمايز” إذا كان بمقدورها أن توجّه “ضربة” لمرشح “المنظومة الحاكمة”؟ ألم تكن تدرك أنّها بقرارها هذا قدّمت “هدية” لميقاتي، أم أنّ هذا بالتحديد ما أرادته، علمًا أنّ بعض التسريبات ألمحت إلى أنّ “تسمية” الأخير كانت مطروحة على طاولة معراب، وبرعاية خاصة من النائبة ستريدا جعجع؟!.
يقول العارفون إنّ “التبريرات” التي أعطتها “القوات اللبنانية” لامتناعها عن التصويت لنواف سلام، الذي كان قادرًا على “توحيد” المعارضة، كانت في غير محلّها، خصوصًا بعدما تبنّى حليفها الأقرب، أي “الحزب التقدمي الاشتراكي”، ترشيح الدبلوماسي المحنّك من خلال كتلة “اللقاء الديمقراطي”، رغم أنّ كلّ التوقعات كانت تشير إلى أنّ الأخير لن يلتزم بقرار المعارضة، طالما أنّ علاقته بنجيب ميقاتي “ممتازة”، وأنّه “جزء” من حكومته.
ولعلّ المستغرب في هذا الإطار أن تقول “القوات” إنّها لا يمكن أن تصوّت لسلام لأنّها “لا تعرفه”، ولأنّها لا تدرك “مقاربته” لمختلف القضايا والاستحقاقات، ما دفع كثيرين إلى التساؤل إذا كانت تعرفه قبل سنوات حين رشّحته، أم أنّها فعلت ذلك من باب “المزايدات والشعبوية” لا أكثر وعلى طريقة “رفع العتب”، باعتبار أنّ الشارع الثوري كان يطرح اسمه، وأنّها كانت تدرك سلفًا أنّ لا حظوظ له بالمُطلَق في “الخرق” بالنظر إلى تركيبة البرلمان آنذاك.
ويذهب هؤلاء أبعد من ذلك بالتساؤل عن “وحدة” المعارضة التي تطالب بها “القوات”، وهي التي لم تستسلم منذ الانتخابات الأخيرة، وهي تتحدّث عن “أكثرية جديدة” أفرزتها نتائج الاستحقاق، قوامها اتحاد القوى “السيادية والتغييرية”، وهي لم تتردّد في “التصويب” على القوى “التغييرية” لتمسّكها بمبدأ “كلن يعني كلن” الذي خاضت على أساسه الانتخابات، فإذا بها عند “المطبّ الأول” تنقلب على “المعارضة”، وتهدي “مرشح السلطة” هدية مجانية.
لكن، أبعد من حسابات المعارضة وصراعاتها الداخليّة، ومن تبريرات “القوات” غير المقنعة لجمهورها قبل خصومها، يتحدّث البعض عن اعتبارات “سياسية” خلف موقف “القوات”، تتفاوت بين ما هو “داخلي”، ربطًا بالخلاف المستجدّ بين ميقاتي و”التيار الوطني الحر”، ولا سيما رئيسه الوزير السابق جبران باسيل، وما هو “إقليمي”، ربطًا بالتحديد بالموقف السعودي، خصوصًا مع الحراك الذي قاده السفير وليد البخاري في الأيام الأخيرة.
فعلى مستوى الحراك السعودي، يقول العارفون إنّ موقف “القوات” المفاجئ جاء ليدحض كلّ الأقاويل التي انتشرت في الأيام الأخيرة عن “استنفار” لدى الرياض لخوض “معركة” ضدّ نجيب ميقاتي، ولينفي كلّ ما أثير عن محاولة البخاري من خلال لقاءاته مع العديد من النواب السنّة “التشويش” على ميقاتي، وعن توجيهه “كلمة سرّ” إلى هؤلاء، دعاهم من خلالها للتصويت لنواف سلام، واعتباره “مرشح السعودية” لرئاسة الحكومة.
وإذا كان التصويت السنّي الذي تراوح في معظمه بين التصويت لميقاتي، أو الامتناع عن التسمية، معبّرًا في هذا الإطار، ونافيًا لوجود أيّ “كلمة سرّ”، فإنّ موقف “القوات” جاء أكثر صراحة ووضوحًا، خصوصًا أنّ رئيس حزب “القوات” سمير جعجع بات مصنَّفًا في الكثير من الأوساط السياسية أنه أصبح بصورة شبه رسمية، “رجل السعودية في لبنان”، وهو أكد أنّ السعودية لا “تفتعل” معركة ضدّ ميقاتي، بل على العكس، تقدّم التسهيلات له.
أما بالنسبة إلى الشقّ الداخلي، فيقول العارفون إنّ الخلافات التي نشبت بين ميقاتي وباسيل، وما أثير عن “تمرّد” الأخير على الأول بعد رفضه التجاوب مع مطالبه وشروطه، المتعلقة بالحصص والمغانم، لعبت دورها في تحديد وجهة التصويت “القواتي”، باعتبار أنّ ميقاتي قد يكون “الأنسَب” في مواجهة باسيل، ولو أن هناك من يقلّل من شأن مثل هذه “المعركة”، التي لن تكون نتيجتها سوى عدم ولادة الحكومة، التي تحتاج مراسيمها لتوقيع رئيس الجمهورية الملزم.
أيًا كانت التبريرات والاعتبارات والحسابات، فإنّ وجهة التصويت “القواتي” لا تعني، أقلّه بالنسبة إلى قوى “التغيير”، سوى صحة مقولة “كلن يعني كلن”، فها هي “القوات” التي لم تكلّ وهي تؤكد أنّها خارج المنظومة، تقدّم لها “خدمة العمر” في أول استحقاق كان يمكن أن يُحدِث خرقًا، بدليل أنّ “مرشح السلطة” لم يحصل على الأكثرية المطلقة من الأصوات، ولا حتى على نسبة الـ65 الشهيرة!.
ch23