ليست المرّة الاولى التي يعمد فيها مصرف لبنان الى التدخل بقوّة في السوق وضَخ الدولارات من اجل دعم سعر صرف الليرة، مما يجعل هذا المخطط القاضي بهدر السيولة بالعملات الاجنبية من اجل شراء الوقت على حساب الاقتصاد، روتينياً عند كلّ حدث او استحقاق، لتعود بعده العوامل الطبيعية كالعرض والطلب للتحكم في سعر صرف السوق وتُعاوِد الليرة الانهيار من جديد مع وقف دعم السعر على منصة صيرفة.
أصبحت النتيجة مع انتهاء فترة «الهرطقات» المالية المعتمدة معروفة، وتبقى ذاتها بل تتفاقم، وهي هدر المزيد من احتياطي مصرف لبنان من العملات الاجنبية من اجل تثبيت سعر صرف منصة صيرفة بالاضافة الى دعم استيراد ما بقي مدعوما من السلع. ورغم ان الاموال المستخدمة للتدخل في سوق الصرف تعتمد وفقاً للبنك المركزي على التحويلات المالية من الخارج والتي قدّرها البنك الدولي مؤخرا بـ6,6 مليارات دولار في 2021، إلا انها ومقارنةً مع حجم التداول اليومي على صيرفة، تدلّ على ان ما يتم استخدامه للتدخل في السوق لا يعتمد فقط على تلك التحويلات، لأنّ المعدل الشهري للاموال المتدفقة بصورة رسمية من الخارج يبلغ حوالى 550 مليون دولار اي حوالى 18 مليون دولار يوميا، علماً ان معدل حجم التداول عبر صيرفة يبلغ 40 مليون دولار يوميا، بالاضافة الى حوالى 5 ملايين دولار يوميا في السوق السوداء. وبالتالي، فإنّ الفارق شاسع بين الدولارات المتوفرة من خلال التحويلات وحجم الطلب على الدولار في السوق والذي يقوم مصرف لبنان بتلبية جزء منه، مستخدماً احتياطه الذي تراجع وفق ارقام ميزانيته، بـ1,8 مليار دولار منذ بداية العام ولغاية 15 ايار.
بالاضافة الى ذلك، عمل مصرف لبنان خلال الاسبوع الماضي بالتعاون مع بعض الصيارفة على سحب حوالى 100 مليون دولار من السوق بسعر صرف الـ33 الف ليرة، وسيعود لبيعها على منصة صيرفة بحوالى 25 الف ليرة واقلّ، مُعرِّضاً نفسه لمزيد من الخسائر من اجل خفض سعر الصرف بشكل وهمي لفترة اسبوع او اسبوعين لمصالح سياسية على الارجح.
لكن السؤال الابرز: لماذا يشترط مصرف لبنان موافقة الحكومة الرسمية على استخدام احتياطه لمواصلة دعم استيراد السلع وتحميلها مسؤولية نفاد احتياطه من العملات الاجنبية بهدف الدعم، ولا يسأل إذن أحد عند استخدامه احتياطه من اجل دعم سعر الصرف رغم ان قانون النقد والتسليف يُجيز له هذا الامر؟ أليست الاموال نفسها التي تُستنزَف لأهداف لا تخدم الاقتصاد؟
اما بالنسبة للاقبال على شراء الدولارات امس بعدما دعا مصرف لبنان أواخر الاسبوع الماضي مَن يرغب بشرائها على سعر منصة صيرفة للتوجّه الى المصارف، فقد كان طبيعياً، ولم يشهد تهافتاً كما في السابق عندما شهدت البنوك تكديس الليرات النقدية بحقائب السفر، وقد شرح مصدر مصرفي لـ»الجمهورية» ان السبب في ذلك يعود الى انّ مصرف لبنان لم يعدّل سقوف المصارف السابقة كما ان المصارف لم تعدّل شروطها لبيع الدولارات، بل انّ جُلّ ما حدث هو ان البنك المركزي عاوَد تسديد الدولارات بالوتيرة السابقة والسريعة نفسها، اي في اليوم الثاني.
وأوضح ان الدولارات التي كان يتم شراؤها في الفترة الاخيرة على منصة صيرفة لم تكن تسدد في اليوم الثاني ودفعة واحدة، بل كان تسديدها يستغرق شهرا او شهرين على دفعات، مما دفع التجار غير القادرين على انتظار تلك الفترة للحصول على دولاراتهم، الى التوجّه للسوق الموازية لشراء الدولارات، مما ادى بالتالي الى ارتفاع سعر صرف الدولار.
واضاف: قامت المصارف امس بتسديد اجمالي المبالغ المطلوبة سابقاً اي الملفات العالقة (pending)، وبدأت استقبال طلبات جديدة لشراء الدولارات على ان يتم تسديدها كاملة اليوم، مشيراً الى انّ وتيرة شراء الدولارات على سعر منصة صيرفة وتسديدها في اليوم الثاني، عادت الى طبيعتها، ممّا أراح التجار والمستوردين الذين لن يحتاجوا الى اللجوء للسوق الموازية بحثاً عن الدولارات، وبالتالي أدى الى انخفاض سعر الصرف في السوق.
في هذا السياق، اعتبر الخبير الاقتصادي وليد ابو سليمان لـ«الجمهورية» انّ السبب وراء عودة مصرف لبنان الى ضخ الدولارات بالوتيرة السابقة، قد يكون سياسيا على غرار ما حصل في الفترة التي سبقت الانتخابات النيابية. وبالتالي قد تكون هناك ارادة سياسية او مطلب سياسي بخفض سعر صرف الدولار قبل جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب اليوم حيث كان مسار سعر الصرف التصاعدي يُنذر بانفجار اجتماعي في حال عدم تَداركه.
واعتبر ابو سليمان انّ الاهمّ في ذلك هو امكانية استدامة هذا الاستقرار في سعر الصرف، علماً ان الاموال المتسخدمة لخفضه لا تعتمد فقط على التحويلات من الخارج كما يُقال بل جزء كبير منها من احتياطي البنك المركزي، «وبالتالي لقد رأينا كيف تم استخدام اموال المودعين سابقاً لدعم سعر الصرف ليُعاود الاخير الارتفاع مجدداً عندما خفّف مصرف لبنان تدخله في السوق».
ch23