هل يصح اعتبار الاتفاق الموقع مع صندوق النقد الدولي بمثابة “تبليغ” بالحكم الصادر عن المجتمع الدولي والعربي وقبلهما اللبناني، بانتهاء صلاحية منظومة الحكم السياسية والاقتصادية والمصرفية؟ وليبقى تحديد البديل وموعد التبديل مرهوناً بالتسوية الإقليمية، واستتباعاً التسوية الداخلية. وكذلك باستعداد المنظومة لكي “تزيح من الدرب” طواعية كما فعل سعد الحريري، أو تتم إزاحتها بالإكراه والعقوبات. علماً أن الاحتمال المرجح هو أن يبادر أركان المنظومة، بعد محاولات يائسة لإشعال الشارع، للإنحناء أمام العاصفة، والمسارعة إلى تبديل جلودهم وانتماءاتهم. “والمجتمع الدولي العظيم” سيقبل طبعاً لأنه يهتم بحفظ مصالحه، ولا يهتم ببناء دول ومؤسسات.
إلى ماذا يستند هذا الاستنتاج؟
أنه يستند ببساطة إلى بنود الاتفاق مع الصندوق، وإلى مراقبة معطيات ووقائع واضحة.
أولاً: قراءة في التقرير
لنلاحظ بداية أنه بعكس ما أشاعت قوى السلطة عن تفاهم وتناغم مع فريق عمل الصندوق خلال المفاوضات، فقد اهتم الفريق بإيصال رسالة محددة، وهي أن إجراء الإصلاحات المعروفة منذ 20 عاماً، هو الشرط اللازم ليس للحصول على التمويل وعلى “ختم الصندوق” فقط، بل لاستمرار المفاوضات. وأنه لم يعد مقبولاً “تدبيج” الخطط الوهمية والوعود الكاذبة، فقد انتهى زمن التشاطر والتذاكي. وهو ما عبر عنه أحد أعضاء الفريق تعليقاً على خطة التعافي ومسودة قانون الكابيتال كونترول بقوله: “نرجوكم أن تحترموا عقولنا”. وعليه، لن يكون مستغرباً أن تشن منظومة السياسيين والمصرفيين حرباً شعواء على الصندوق، وأن يزايد أركان جمعية المصارف على حزب الله، في رفض الإملاءات وشروط الإذعان التي تمس السيادة والكرامة الوطنية.
تغيير ملكية المصارف وإداراتها
نقزة المصارف وداعميها من الاتفاق مبررة تماماً، فمن أصل التدابير الثمانية العاجلة التي وردت في الاتفاق، هناك خمسة تدابير تتعلق حصراً بالقطاع المصرفي والنقدي. ويتضح من القراءة الدقيقة لهذه للتدابير ما يلي:
1- تغيير جذري في ملكية وإدارات المصارف لفك التحالف أو التماهي بين السياسين والمصرفيين، لأنه في ظل هكذا مصارف ومصرفيين، يستحيل الحديث عن انتعاش اقتصادي واستعادة الثقة لضخ الاستثمارات والتحويلات، وحتى لإخراج الأموال من المنازل. واشترط الاتفاق في أحد بنوده أن تقوم الحكومة بإصدار “استراتيجية لإعادة هيكلة البنوك تقر مقدماً بالخسائر وتعالجها، مع حماية صغار المودعين والحد من الاستعانة بالموارد العامة” (احتياطيات مصرف لبنان تحديداً). ولم يكتف الصندوق بذلك، بل أصر على تحصين القرار الحكومي بقانون. فقد نص الاتفاق في بند آخر على أن “يصدر البرلمان تشريعاً طارئاً لتسوية الأوضاع المصرفية”.
شطب رؤوس أموال المصارف
2- تحميل المصارف وكبار المساهمين فيها قسماً كبيراً من الخسائر المقدرة بحوالى 70 مليار دولار، كما يتضح من النص على “حماية صغار المودعين وعدم الاستعانة بالموارد العامة”. وتشير البيانات المتوافرة إلى أن الودائع الصغيرة حسب التصنيف المعتمد حتى الآن، أي تلك التي تقل عن 150 ألف دولار، تبلغ حوالى 25 مليار دولار، أي ما يعادل تقريباً رؤوس أموال المصارف المقدرة بحوالى 20 مليار دولار، مضافاً إليها الأموال التي تحتفظ بها المصارف في خزائنها ولدى البنوك المراسلة. وبمعنى أوضح، فالتوجه هو إلى استخدام الأموال الخاصة للمصارف لتغطية جزء من الخسائر. وهو الأمر الذي يضع أصحاب المصارف وحلفاءهم من السياسيين أمام خيارين؛ إما ضخ مليارات الدولارات لتعويم مصارفهم، وإما الخروج من السوق ليتم تأسيس مصارف جديدة “نظيفة”. ومن غير المستبعد أن يشكل أصحاب الودائع المتوسطة الثقل الأكبر من المساهمين في هذه البنوك، ليفرضوا وجودهم في مجالس الإدارة وفي الإدارة. كما أنه من غير المستبعد أن تنعكس التسوية السياسية المرتقبة على التركيبة الطائفية للقطاع المصرفي، فنجد أن هناك مصرفاً أو أكثر محسوب على الطائفة الشيعية.
استعادة الأموال المنهوبة
3- نصل إلى “ثالثة الأثافي” التي تضمنها الاتفاق، وهي محاصرة كبار المساهمين، وهم بالغالب الأعم من السياسيين وأقاربهم وشركائهم من رجال المال والأعمال، لكشف عمليات الفساد وإجبارهم على إعادة ولو جزء من الأموال المنهوبة الموجودة في المصارف، أو التي حولوها إلى الخارج. ونلاحظ أن الاتفاق تضمن بندين متصلين ومتكاملين؛ الأول ينص على “مبادرة مجلس النواب إلى تعديل قانون السرية المصرفية لمواءمته مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد والإزالة الفعالة للعقبات أمام إعادة هيكلة القطاع المصرفي والرقابة عليه، وإدارة الضرائب، والكشف عن الجرائم المالية والتحقيق فيها، واسترداد الأصول”. أما البند الثاني فينص على “الشروع فوراً بعملية تقييم وتدقيق لأوضاع أكبر 14 مصرفاً (تستأثر بأكثر من 82% من الودائع والتسليفات). والأدهى أن الاتفاق ينص على أن تتولى المهمة “شركة دولية مرموقة”. وتتوسع عملية الحصار لتطال البنك المركزي، حيث ينص البند الأخير من اتفاقية الصندوق على “الانتهاء من التدقيق بوضع الأصول الأجنبية لدي مصرف لبنان”.
وتكتسب هذه البنود أهمية حاسمة لأن لبنان قد يكون الدولة الوحيدة في العالم التي لا تزال تطبق قانوناً بالغ الصرامة للسرية المصرفية. الأمر الذي يعيق أي إعادة هيكلة للمصارف، كما يعيق تحديد الفاسدين وعمليات النصب والاحتيال والهندسات المالية التي تمت، إضافة إلى إعاقة استرداد الأموال.
أما قانون الكابيتال كونترول الذي تحاول الحكومة تمريره، فبات واضحاً انه “بضاعة فاسدة” لن تجد من يشتريها، أولاً لأنه “كالذاهب إلى الحج والناس راجعة”، وثانياً لأنه أشبه بقانون جديد للنقد والتسليف، تتوهم طبقة السياسيين-المصرفيين أنه سيحميها.
ثانياً: قراءة في المعطيات
هناك الكثير من المعطيات التي تؤكد انتهاء صلاحية المنظومة السياسية والاقتصادية والمالية، نكتفي بالإشارة إلى أهمها، فنلاحظ بداية أن “لبنان يشكل تحدياً فريداً لإدارة بايدن” كما ذكرت مجلة فورين أفيرز في تقرير مهم حول الفساد اللبناني (راجع “المدن”). فهذه الإدارة التي رفعت شعار ان “مكافحة الفساد تعتبر أحد مقومات الأمن القومي الأميركي”، والتي تخوض حرب “كسر عظم” مع الصين تحت شعار محاربة الفساد وتعزيز الديموقراطية، لا يمكنها مواصلة التعاون مع طبقة سياسية مصرفية ضج العالم بأخبار فسادها، وارتكبت ما بات يوصف بأكبر سرقة في التاريخ. ولنلاحظ أن أميركا تخلت عن دول وأنظمة أهم من لبنان بمئة مرة لاستعادة مصداقيتها المهدورة، ولتعزيز قيادتها للدول الديموقراطية والعالم الحر. ولا يمكن لها مواصلة ذر الرماد في العيون “والاكتفاء بمعاقبة بعض السياسيين ورجال الأعمال المناوئين لسياستها، بهدف الحد من نفوذ حزب الله وغض النظر عن فساد أصدقائها”، كما ذكر تقرير الفورين أفيرز.
وينطبق ذلك على الدول الأوروبية وبقية الدول المانحة، التي يتملكها اليأس من هذه المنظومة التي لا تزال تناور للتنصل من كافة التزاماتها بالإصلاح من سيدر 1 و 2 إلى مؤتمر دعم لبنان في كانون الأول 2020 ، وهو ما يفسر وقف كل أشكال الدعم عن مؤسسات الدولة اللبنانية والاكتفاء بتقديم معونات سخية للمنظمات غير الحكومية.
ونتساءل، هل هي مجرد صدفة توالي التقارير والأبحاث المتعلقة بفساد الطبقة السياسية اللبنانية في كبريات وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث مثل CNN وفورين أفيرز، وكذلك عمليات التدقيق في أميركا وأوروبا بأنشطة المصارف اللبنانية ومصرف لبنان، خصوصاً ما يتعلق منها بالتحويلات الضخمة خلال العامين الماضيين. وهل هي مجرد صدفة الاتهامات المباشرة للطبقة السياسية بالفساد وبشكل غير مألوف من قبل الأمين العام للأمم المتحدة مثلاً، الذي وصف أنشطة البنك المركزي والمصارف بأنها أشبه بـ”مخطط بونزي”، وكذلك البنك الدولي الذي أرجع الأزمة إلى فساد السياسيين، معتبراً أنها حالة “كساد مدبَّر من قبل نخبة استولت على الدولة وعاشت من ريعها “.
وليبقى السؤال، هل تقتنع المنظومة بأن زمن النهب و”البلف” قد ولى، بعد أن جف ضرع الدولة ويبس زرع المودعين، وأحتبس مطر المانحين، وبأن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي هو مجرد “تبليغ” بانتهاء صلاحيتها؟