عندما ذهب حاكم مصرف لبنان بعيدًا في توسيع نطاق عمل منصّة التداول بالعملات الأجنبيّة، في بدايات العام الحالي، أيقظت التطوّرات حلم “توحيد أسعار الصرف وتعويمها”، خصوصًا بعدما تمكّن الحاكم من دفع سعر صرف السوق الموازية نزولًا ليوازي سعر المنصّة. تلك التطوّرات التي نتجت عن ضخ المركزي الدولارات بوتيرة متسارعة، وبيعها بلا قيود بسعر المنصّة، كانت تفتح الباب أمام تحويل المنصّة إلى وسيط قادر على استيعاب حركة بيع الدولار وشرائه، طالما أن سعرها بات يوازي- أو بالأحرى يحدد- سعر الصرف الفعلي والحر في السوق. لكن كما بات معلومًا أن كل هذه الأحلام باتت من الماضي اليوم، بعدما دخلت المنصّة في مرحلة التعثّر مجددًا، وعاد سعر صرفها ليكون مجرّد سعر مدعوم نسبيًا، تستفيد منه حلقة من المستوردين المحظيين، فيما انفلت سعر السوق الموازية صعودًا.
حركة الأسبوع الماضي الماليّة عادت لتؤكّد هذه الحقيقة: استمرّت حركة البيع والشراء عبر المنصّة بالتقلّص، لتقتصر على نحو 293.8 مليون دولار خلال خمسة أيام، مقارنة بـ424 مليون دولار في أواسط شهر آذار الماضي. أما سعر صرف المنصّة، فتراوح بين 22,100 و22,200 ليرة مقابل الدولار طوال أيام الأسبوع، فيما كان سعر الصرف في السوق الموازية يحلّق بعيدًا عند مستويات لامست 24,100 ليرة مقابل الدولار، ما يعيد التأكيد على فقدان المنصّة السيطرة على سعر الصرف في السوق الموازية.
كل ما يجري اليوم ليس سوى نتيجة فقدان مصرف لبنان القدرة على ضخ الدولارات بنفس الوتيرة السابقة، ما أدى إلى عجزه عن تلبية إجمالي الطلب على الدولار في السوق، كما حصل في بدايات مرحلة ضخ الدولار. ولهذا السبب بالتحديد تقلّص حجم عمليّات المنصّة تدريجيًّا، ليقتصر على نطاق محدود من العمليّات، وحسب سعر الصرف الذي يحدده مصرف لبنان، فيما عاد الطلب على دولار السوق الموازية- خارج نطاق المنصّة- إلى الارتفاع. وهنا بالتحديد، بدأ سعر السوق الموازية بالارتفاع مجددًا، وعاد التباين ليظهر بين سعري المنصّة والسوق الموازية. وفي النتيجة، تحوّل سعر المنصّة مجددًا إلى سعر مدعوم ومحدود الأهداف، بدل أن يكون سعرًا موحّدًا وعائمًا يعبّر عن سعر الصرف الفعلي في السوق.
هذا التطوّر يعني توجّه عمليّات بيع الدولار إلى السوق الموازية، الأعلى سعرًا، بدل توجهها إلى المنصّة. كما يعني توجّه عمليّات الطلب على الدولار إلى السوق الموازية، طالما أن دولارات المنصّة الشحيحة باتت مخصصة لفئات محددة، بدل أن تكون المنصّة وسيطًا ماليًا قادرًا على استيعاب حركة التداول في السوق. وباختصار: عادت المنصّة إلى مرحلة الارتباك مجددًا. وأطاحت هذه التطوّرات حلم الأداة القادرة على توحيد وتعويم سعر الصرف في السوق بشكل منظّم. وحتّى إشعارٍ آخر، يبقى سعر الصرف الحر والفعلي في السوق رهين السوق الموازية، الخارجة عن سيطرة مصرف لبنان.
حساسيّة مراجعة حركة السوق الماليّة اليوم، ومراجعة وضعيّة المنصّة بالتحديد، تكمنان في كون مسألة توحيد أسعار الصرف إحدى الشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي، قبل توقيع الاتفاق النهائي وحصول لبنان على القرض المطلوب من الصندوق. بمعنى أوضح: لا يمكن للبنان الانتقال من مرحلة المحادثات، إلى مرحلة توقيع الاتفاق، إذا لم ينجح المصرف المركزي في إطلاق أداة قادرة على التحكّم بسعر الصرف الحر في السوق، ومن ثم الاعتماد عليها لتأسيس سعر صرف عائم وموحّد، وبآليات تسمح لمصرف لبنان بالتدخّل عند الضرورة. ولهذا السبب تحديدًا، من المرتقب أن يترك التعثّر الحاصل في عمل المنصّة أثره على مستوى مسار التفاهم مع صندوق النقد، وقدرة لبنان على الامتثال لشروط الصندوق في المستقبل.